يكتب بعض الصحفيين في صحافة البترودولار عن جردة الحساب في سورية لعام 2021، حيث تنضح من هذه الكتابات لغة أقرب إلى لغة التشفي، والحقد، لغة تحاول أن تقول لنا ارحلوا من هذا الجحيم المسمى سورية، ارحلوا أيها السوريون فلا أمل لكم سوى الهجرة، واتركوا هذا الخراب الذي لن يبقى إلا خراباً، إذ لا ضوء في نهاية النفق، وستبقون في هذا العذاب البشري إلى ما لا نهاية، وإلا فأمامكم الاستسلام لما تريده إسرائيل والولايات المتحدة، وقوى الهيمنة العالمية، وستبقى بلدكم مقسمة حسب ما هو مقرر دولياً وإقليمياً، ولا أفق عربياً لكم، اخرجوا من هذا الجحيم المسمى سورية!
هكذا ببساطة يبشرنا أحدهم مع نهاية العام 2021 ليرسم لنا صورة قاتمة للعام 2022، وإذا أردت أن أرد عليه سيقال لي ردك عاطفي، والواقع صعب جداً، ولا تستطيع الآن أن تحادث أي مواطن سوري في ظل انعدام الكهرباء، والظروف المعيشية القاسية، التي ما من شك أنها واقعية وصعبة، ولكن هل الحل هو كما يطرحه صديقنا في صحف البترودولار، أي الهجرة والرحيل؟ والهروب من الجحيم على حد زعمه!
أقول ببساطة إن المخاطر العالية على سورية كانت ومازالت مستمرة، ولكن لنتذكر المعارك الكبرى، وهزيمة الإرهابيين الذين كانوا على مقربة من بيت كل سوري، وجاؤوا من كل أصقاع الأرض ليغزونا في مدننا وشوارعنا وتراثنا وثقافتنا، يذبحون الرجال، ويسبون النساء، وبتمويل هؤلاء الذين ينظرون علينا الآن، والذين أنفقوا مئات مليارات الدولارات على تدمير بلدنا وشعبنا وحياتنا، وهنا دافع أغلبية السوريين بدمائهم وأرزاقهم، وحياة أبنائهم مع جيشهم البطل عن جحيم آخر كان سيحدث لو لم نقف جميعاً بقوة وثبات ضد هؤلاء القتلة والمجرمين، الذين صوروا في إعلامهم القذر، أنهم ثوار حرية وكرامة، وهم ليسوا إلا مرتزقة عملوا مع أجندات دول ضد بلدهم وشعبهم.
هذا الأمر يعرفه كل السوريين، وعاشوه، ويدفعون ثمن هزيمة هذا المشروع الحقير والقذر، والأنكى من ذلك أن بعض الذين يجلسون في عواصم الغرب، ويكتبون مقالاتهم، يريدون الآن أن يقولوا لنا ببساطة اتركوا وراءكم هذه التضحيات الهائلة، واتركوا قبور شهدائكم، وارموا جرحاكم في الطريق، وادفنوا ذكرياتكم، وانسوا معارك دمشق وحلب ودير الزور وتدمر واللاذقية وحمص وحماة، انسوا مجزرة جسر الشغور، انسوا رمي جثث جنودكم في نهر العاصي، انسوا تقطيع جثثكم في الأكياس، انسوا مطار كويرس، وسجن حلب المركزي، وانسوا قتل علمائكم، ورجال الدين، وتدمير جامعاتكم ومشافيكم، ومحطات الكهرباء والماء، وشبكات الدفاع الجوي، وقتل الضباط والجنود في كل مكان، انسوا الخطوط الحمراء التي كسرتموها، وانسوا اللحظات، والدقائق التي رافقتكم في محاولة تفجير الإذاعة والتلفزيون، ومقر هيئة الأركان، ومقرات أجهزة الأمن، ومخافر الشرطة والمشافي، وانسوا تدمير آلاف المدارس، وانسوا تهديدات ساعة الصفر لاقتحام دمشق، وانسوا القذائف التي كانت تتساقط على رؤوسكم، حيث كنا نتحدى بعدها كل المعتدين بإرادة الحياة، والدراسة والتعلم وانسوا تهديدات أردوغان ووعوده بالصلاة في الجامع الأموي، ووعود إسقاط الدولة مع كل رأس سنة، أو عيد أضحى أو عيد فطر.
ماذا سأعدد من لحظات الصبر، وأسطورة صمود السوريين الذين سيكتب التاريخ عنهم كثيراً، ولكن ما علاقة كل ذلك بما نحن فيه الآن من فقدان أبسط مقومات الحياة!
الحقيقة أن استمرار الحصار والعقوبات، والضغط الاقتصادي الهائل هو أخطر أدوات هذه الحرب، واستمرار الضغط النفسي والإعلامي هدفه قتل هذا التراكم النضالي الهائل للسوريين، وإجبارهم على الاستسلام والقبول بشروط المحتلين الأميركي- الإسرائيلي، والتركي- الناتوي، والذين مازالوا طامعين في الحصول على تنازلات لم يحصلوا عليها في الأيام الصعبة.
الآن ماذا يريد هؤلاء منا؟
1- تنازلات دستورية تحقق لهم ما عجزوا عنه بالإرهاب، أي استخدام التجويع لكتابة دستور يؤمن بقاء الدولة كشكل دون مضمون، وإدخال أدواتهم عبر الدستور وبالتالي تفخيخ البلاد لعقود قادمة باسم الشرعية والقانون، وانظروا نماذج العراق وليبيا والسودان، وكيف يتلاعبون بكل تفصيل فيها لتحقيق مصالحهم؟
2- بقدر ما يرى البعض أن هناك قوى أمر واقع شمال شرق البلاد، وشمال غربها، ويخيفوننا من استمرار هذا الواقع، فإن المتغير الأهم أن الرأي العام السوري أدرك خطورة مشروع الانفصاليين وعمالتهم، وأكدت التسويات التي أجرتها الدولة السورية صحة وصوابية ذلك، وبالتالي فإن هذا الواقع المفروض بقوة الاحتلال الأميركي لن يستمر لأنه واقع غير قابل للحياة، وسيزول بزوال هذا الاحتلال مهما طال الزمن، خاصة أن تحولات إقليمية ودولية تسير باتجاه متسارع لتساعد في ذلك.
3- أما شمال غرب البلاد فإن بقاء تنظيمات القاعدة برعاية تركية لا يمكن أن يستمر لأن محاولة تركيا الحديث عن إرهاب حزب العمال الكردستاني، من دون الحديث عن إرهاب هذه الجماعات غير ممكن ومفضوح، وإذا أضفنا لذلك أن مستقبل تركيا ضمن المشاريع الكبرى لا يمكن أن يصبح صحياً من دون بوابتها الجغرافية الطبيعية عبر سورية «شمال- جنوب» أي عبر معبري باب الهوى ونصيب، فإن كل محاولات اردوغان بتصفير المشاكل مع المحيط الإقليمي دون سورية هي محاولات لن تحقق له أهدافه الاقتصادية المستقبلية.
4- موضوع التطبيع مع إسرائيل، هنا أود أن ألفت انتباه الجميع إلى ما يحدث في المنطقة مع من طبعوا، لأسأل هل ازدهر اقتصادهم مثلاً؟ وهل تحسن واقع مواطنيهم؟ خذوا الأردن الذي وقع وادي عربة منذ التسعينيات، ماذا يحدث الآن؟ وخذوا السودان، هل تدفقت المساعدات عليه؟ وكثير من الأمثلة الأخرى، ولهذا فإن خيار التطبيع هكذا، ليس خياراً كما يتوهم البعض.
إن محاولة فرض هزيمة افتراضية علينا الآن بعد أحد عشر عاماً هي محاولة فاشلة وبائسة ويائسة، والظروف القاسية جداً سوف تتجاوزها سورية تدريجياً، فالكهرباء سيتحسن وضعها نسبياً حتى ربيع العام القادم، والمفاوضات ستستمر مع خصومنا والصورة التي يقدمها البعض لنا على أنها سوداوية هي ليست كذلك، ففي حروب التحولات الكبرى في العلاقات الدولية لا تتحقق النتائج بالضربة القاضية إنما بالنقاط، وبنفس طويل، وبقدر ما لدينا نقاط ضعف بحاجة للمعالجة، فإن لدينا نقاط قوة، وبقدر ما لدى خصومنا نقاط قوة، فإن لديهم نقاط ضعف أيضاً، وإذا كانوا يعتقدون أنه عبر لغة اليأس والقنوط، والضغط الشديد سيصلون لنتائج فهم واهمون، فهذا البلد على الرغم من مصاعبه الهائلة جداً هو بلدنا، والأرض أرضنا، وهنا تاريخ أجدادنا، ومستقبل أبنائنا بين أيدينا، ولن نهزم في هذه الحرب مهما كابروا، ومهما رفعوا أصواتهم وصرخوا، فهذا الصراخ، صراخ المهزومين الذين يريدون أن يقولوا لنا «اخرجوا من هذا الجحيم» ونحن نقول لهم بكل قوة وثبات أنتم ستخرجون من هذه الأرض عاجلاً أم آجلاً.
وإذا كان البعض سيبدو له مقالي عاطفياً جداً، ويقوم على مبدأ «التفكير الرغبوي» فإنني أؤكد لهؤلاء أننا في أصعب اللحظات التي مرت بها بلدنا لم نيئس، وكان إيماننا صلباً كسوريين في أن مخرجنا سوياً وخلاصنا سوياً، ومن يفكر بغير ذلك مشتبه، ومن ناحية ثانية فإن الواقع الذي تم تغييره خلال السنوات العشر الماضية كان يراه كثير من اليائسين بأنه مستحيل التغيير، وحدث هذا، ولذلك نقول لكل اليائسين، والمحبطين، لن نبيع بلدنا كما قال لي أحد الشباب الروس في ذكرى انهيار الاتحاد السوفييتي التي تصادف في 25 كانون الأول، لقد بعنا بلدنا بعلبة كولا، وبنطال جينز، وندمنا لاحقاً، لأننا لم ندافع عنه كما يجب، أما نحن السوريين فلن نبيع دماء شهدائنا، وتضحيات جرحانا.
أما الإيمان بالنصر النهائي والناجز، فهذا شعور لم يتزعزع ولا لحظة، حتى لو كتبت آلاف المقالات المأجورة، ولن تتحقق الهزيمة الافتراضية الآن، بعد هذه الحرب البشعة والإجرامية، فبلدنا لن نبيعها، ولغتكم البائسة اليائسة لن تجدي نفعاً، وإن غداً لناظره قريب.
الوطن
Views: 0