تقوم القوى السياسية بالتحضير للانتخابات. لكن الأمن الانتخابي يفترض أن يكون أولوية في بلد التوترات والفوضى المتنقلة، فكيف يمكن أن تواكب الأجهزة الأمنية هذا الاستحقاق؟
من يتعاطى الشأن الانتخابي بجدية، يردّد دوماً أن من المبكر الكلام عن الاستحقاق الانتخابي منذ الآن، لكن القوى الحزبية التي كان يفترض أن تكون محركاً للساحة السياسية لا تتعاطى إلا بالشأن الانتخابي. لذا، بدأ الانكباب على تلمّس كل عثرات الانتخابات. فحتى يحين موعد 15 أيار، لا يمكن التعويل على قرار إجراء الانتخابات فقط لضمان إجرائها. فعدا عن الأمور اللوجستية التي تحتاج إليها، سيكون الأمن الانتخابي على المحك، من الآن وحتى يحين موعد الاستحقاق.
حادثة المصرف في جب جنين، أول من أمس، أعادت الى الواجهة موضوع الأمن في الداخل والذي يمكن أن يهتز في أي لحظة لأسباب مختلفة، فكيف الحال والأسباب في لبنان أصبحت لا تعدّ ولا تحصى. وهذه الحادثة ليست معزولة، بحيثيّاتها وظروفها، عن الوضع الأمني ككل، وما يمكن أن تتركه لاحقاً من تأثيرات. فعدد من المصرفيين وأصحاب المصارف الكبار أبدوا في الساعات التي تلت حدوثها خشيتهم بجدية من احتمال تكرارها، وأن تصبح مثالاً للمودعين المتضررين، لذلك بدأوا درس سبل التحوّط المسبق، رغم أن المصارف تلجأ منذ مدة الى إجراءات احترازية وحمايات خاصة وأمنية لتأمين سلامتها وسلامة موظفيها. وهذا يثير مخاوف على أكثر من صعيد، ولا سيما في حال قررت المصارف اتخاذ إجراءات أكثر حزماً في التعامل مع المودعين وإقفال الأبواب في وجوههم في مناطق مختلفة.
من الآن وحتى موعد الانتخابات، يشكّل احتمال تكرار مثل هذه الحوادث وانفلات الأمن أحد الهواجس الأساسية قبل الوصول الى الموعد المنتظر. فالأمن الانتخابي ليس وليد لحظة أو أسابيع قليلة استعداداً لليوم المنشود، بل هو عملية متكاملة تبدأ بتطبيع الاستقرار في شكل كامل، بما يفرض إيقاعاً مختلفاً عما يعيشه لبنان اليوم، ولا سيما أن شخصيات فاعلة في الوسط السياسي تتعامل مع عملية خفض الدولار على أنها عملية تهدف فقط الى امتصاص النقمة الشعبية والفوضى المتوقعة، بعدما كانت المعلومات المالية تتحدث عن ارتفاع جنوني للدولار ليلامس أربعين ألفاً. فجاء القرار السياسي والمالي المشترك، لتفكيك أي عوامل فوضى اجتماعية، نتيجة تحذيرات خارجية من الأضرار التي يمكن أن يشكلها ارتفاع الدولار على الوضع الحكومي أولاً، ومسار الانتخابات ثانياً.
وبقدر ما يشكل الوضع المالي تحدياً، فإن الانتخابات تحتاج الى رافعة أمنية متكاملة. الأمن الانتخابي يوضع في عهدة الجيش وقوى الأمن من أجل تأمين سلامة العملية الانتخابية. لكن هذه العملية ليست محصورة فقط بيوم الانتخاب، إنما قبله وبعده، وحماية مراكز الاقتراع وفرز الصناديق وسلامة العملية بمجملها. لكن القوى الأمنية التي تبدو اليوم في حالة تعثّر واضحة، وتشهد حالات فرار، وانخفاضاً في مستوى أداء عسكرييها ورواتبهم، ستواجه تحديات مبكرة من الآن في الاستعداد لمثل هذا الاستحقاق. ولا يعني تقاضي العسكريين في الجيش رواتب بالدولار كما جرى التعميم أمس من قيادة الجيش، وإن لم يكن واضحاً كيفية صرف المبلغ ومصدره، وما يثيره من حساسيات مع أجهزة أمنية أخرى، أن الأمر سيكون بمثابة تسهيل لأعمالهم العسكرية. فالوضع الاجتماعي لأفراد المؤسسات الأمنية قاطبة يتطور سلباً من يوم الى آخر، وكل الإعلام الغربي بدأ يتناوله تفصيلاً، بما يحمل من رسائل مقلقة حول إمساكها بالوضع الأمني. والانتخابات هي واحد من التحديات الأمنية التي ترتفع مخاطرها، بارتفاع عدد المشكلات السياسية التي ترخي بثقلها مبكراً. وتسليم الأمن الانتخابي الى القوى الأمنية من دون نزع فتيل التوتر السياسي، لا يمكن أن يؤدي غرضه. فكيف يمكن لجم توتر انتخابي في منطقة عين الرمانة ــــ الشياح، مثلاً، إن بقي الجو السياسي بين الأطراف المعنية على حاله، وإن لم يتضاعف من الآن وإلى الأشهر المقبلة. وهو الأمر نفسه الذي قد ينسحب على مناطق توتر أخرى.
ثمة شق آخر يتعلق بمواكبة الانتخابات، إذ عادة تبدأ القوى الأمنية بالتحضير لجهوزيتها العملانية للانتخابات قبل نحو شهرين من موعدها. لكن الجيش وقوى الأمن والأمن العام وأمن الدولة يبدأون التحضير معلوماتياً للعملية قبل أشهر من موعدها، وهذا الأمر سيكون مرصوداً بدقة أكبر في هذه الانتخابات، في ضوء قدرة الأجهزة الأمنية على ضبط التدخلات العسكرية لضباطها ومنع تدخلهم الى جانب القوى السياسية. وهو الأمر الذي يتكرر أحياناً في مناطق نفوذ القوى السياسية وبتغطية منها. وهذا سيكون واحداً من مخاطر الأمن الانتخابي، بعدما تعاملت القوى السياسية مع الاستحقاق على أنه مصيري، مسموح استعمال كل الأسلحة فيه، بما في ذلك الدولار والمصارف والنفوذ الأمني، ولكل طرف سياسي جهاز يمون عليه. وسيكون قادة الأجهزة تحت المراقبة في كيفية تعاملهم مع هذا الاستحقاق، ولا سيما المعنيون منهم مباشرة باستحقاقات لاحقة.
Views: 1