إن أقمت في دمشق، فالفرصة متاحة على الدوام لمقابلة أطياف من اللهجات الشعبية تدلك إلى مسقط رأس المتحدث، فتطالعه بالسؤال ضمناً أو علناً: “حضرتك من المكان الفلاني؟”.
فأكثر من ثلاثة آلاف سنة استمرت اللغة الآرامية دونما انقطاع في التكلم أو الكتابة، لتتألق كأعرق اللغات المتداولة في العالم، متناغمة مع أختها اللغة العربية.
تحدّث السوريون اللغة الآرامية وكتبوا بحروفها، وهي اللغة الأوسع انتشاراً في التاريخ، والمستمرة إلى وقتنا الحاضر عبر آلاف الألفاظ والمفردات العربية، وعبر بعض لهجاتها، مثل السريانية والنبطية والتدمرية ولهجة معلولا، بخعة، جبعدين في ريف دمشق..
للاستفاضة بهذا الشأن التقت جريدة “تشرين” بالدكتور إبراهيم خلايلي، المختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره ليشرح موضحاً تاريخ نشوء اللهجات الشعبية السورية المتنوعة عبر العصور.
لغة المشرق القديم
استهل الدكتور خلايلي الحوار بذكر السيد المسيح واستخدامه اللغة الكنعانية والآرامية القريبة من العربية الفصحى، مردداً على خشبة الصلب: “إيلي إيلي لمَ شبقتني؟” أي “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” فكلمة “شبقتني” هي نفسها “سبقتني” بالعربية، ومن يسبق الآخر يعني أنه تركه.. وبالعودة إلى بعض اللهجات الآرامية فإننا لا نجد هذه العبارة كما هي، بل ثمة بعض الاختلاف، فبلهجة معلولا –مثلاً- هي كالتالي: (ألوي ألوي، عيا تشريتشن)… “تشريتشن” = “دشّرتني” بالعامية.. علماً أن السيد المسيح كان يفهم سريانية المدن السورية (أورفة على سبيل المثال).
ثم تابع الباحث خلايلي: “إن الآرامية تنتمي إلى لغات المشرق القديم، التي يفضّل بعض علماء اللغات القديمة تسميتها –الآن- ـ”اللهجات العربيات” نظراً للقرابة اللغوية الكبيرة بينها، ولاسيما مع اللغة العربية على مستوى الجذور والقواعد والمفردات، فهناك صلات كبيرة بين العربية والأكادية والإبلائية والكنعانية والآرامية، تلك الصلات التي أسست منذ القدم لهجات سكان بلاد الشام وجعلتها متشابهة.
أما الاختلافات البسيطة بين لهجات السوريين، فتعود إلى عوامل جغرافية وبيئية وتاريخية منها احتفاظ بعض اللهجات بمفردات قديمة، ومنها دخول مفردات أجنبية إلى بعض اللهجات في بعض المناطق..”
اللهجة النبطية
تعبّر اللهجة النبطية، وفق شرحٍ قدمه ضيف “تشرين” عن تمازج الآرامية والعربية، وللأنباط آثار مهمة في بصرى من القرن الثالث ق.م وحتى القرن الثاني الميلادي.. أما حضارة الأنباط فعربية في لغتها، آرامية في كتابتها، وثمة شواهد تعود إلى نهاية القرن الرابع ق.م تؤكد استخدام الأنباط للآرامية في كتابتهم، ولكن بالتدريج انفصلت الكتابة النبطية عن الآرامية، وأضحى لها طابعها المميز حوالي منتصف القرن الأول ق.م وقد تطور الخط النبطي اعتباراً من القرن الثالث الميلادي وقام بدور كبير في نشوء الخط العربي الذي انتشر مع ظهور الإسلام، فالأبجدية العربية انحدرت مباشرة من الحروف النبطية، والمثال عليها نقش “النمارة” الذي عُثر عليه شرق جبل العرب، والعائد إلى سنة 328م، وهو مسطور بحروف نبطية.
لهجات عامة
ما فتئت اللهجات العامة تميز بعض الأحرف أو الأصوات بما يكشف مرابَعِ ناطقيها، استناداً إلى ما احتفظت به كل منطقة من ألفاظ وأصوات “خام” عبر العصور، ينطق أهل ريف دمشق كلمة “جوز” على شكل “زوز”، و”شمس” “سمس”، وهما لفظان قديمان من الكنعانية والآرامية.. كما يمال حرف الألف ويرقق في حلب (امبارحة، امبيرحة) ليفخم تفخيماً غليظاً بالساحل (مبااارح) منطوقاً بتخفيفٍ أقلّ بمدينة طرطوس وبعض بلدات المنطقة الوسطى (فرحان، فرحين)،إضافة للياء والواو اللتين تلفظان ألفاً ببعض قرى الساحل والجبال الداخلية (زيت، زات) ليأتي الاختلاف في لفظ القاف متنقلاً بين المناطق منطوقاً من مخرجه في السويداء وبعض المناطق الشرقية، كذلك في مدنٍ وقرى شمال سورية إضافة لقرى الشريط الساحلي وصولاً إلى جبال حمص وحماة، لتتحول كافاً باللهجة الحورانية (بينما تستبدل كاف المخاطبة بـ “تش”: لونشِ لونك) وألفاً ناعمة داخل المدن والعاصمة دمشق (مشتاق: مشتاء)، كذلك حال الحروف اللثوية التي تنطق من مخارجها عند أهل المنطقتين الشرقية ذات (اللهجة الماردلية) والجنوبية على نحو خاص، بينما تلفظ في معظم المناطق (ظ،ض- ث،س- ذ،ز).
كما تعرف حمص وريفها، بضم الحرف الأول من الكلام، وإبدال الألف أو التاء المربوطة بياء ساكنة في آخر الكلمة (كبيري، لُعبي).
في حين حافظت لهجات قرى جبال القلمون على خصوصية “آرامية-كنعانية” واضحة: فتلفظ “تفاح” تفوح و”رمان” رمون.
مفردات متداولة
بالسؤال عن بعض المفردات المتداولة في سورية حتى الآن الأصيلة منها والدخيلة أجاب الدكتور خلايلي: تحتوي لهجاتنا المحكيّة على عدد كبير من الألفاظ والمفردات الأصيلة من الآرامية، فقرابة 90% من الألفاظ العربية في الفصحى و”المحكيّة” هي آرامية- كنعانية..
وهناك الدخيل من اللغات الأخرى كالفارسية (تخت: سرير- تمبـل: البليد الكسول) والتركية (أوضة: غرفة- خاشوقة: ملعقة- ساكو: جاكيت- سيلة: جيبة- سقرق: كيل لشرب الماء) واليونانية (فانوس-مصباح، ناووس بمعنى تابوت حجري).
وفي النهاية لابدّ من الإشارة إلى أن”اللهجة السورية” المتمايزة المتنوعة لا تزال بالنسبة لغير السوريين اللهجة المعاصرة لمدينة دمشق أو ما يسمى (اللهجة الشامية) الشائعة في مسلسلات الدبلجة والأعمال الدرامية المحببة.
Views: 9