لماذا لا نستبعد ان يكرر بايدن السيناريو الإيراني ويرفع العقوبات مهزوما عن روسيا؟ وكيف قد تعطي استراتيجية حرب الاستنزاف في أوكرانيا نتائج عكسية؟ وماذا يعني التلويح الأمريكي باستخدام بوتين للأسلحة الكيماوية واتهامه كمجرم حرب؟ وما هو السيناريو القادم؟
عبد الباري عطوان
ربما تختلف الإدارات الامريكية فيما بينها في بعض السياسات الداخلية والخارجية، ولكن القاسم المشترك بينها جميعا ينحصر في امرين رئيسيين: الأول “الغرام” بفرض الحصارات والعقوبات الاقتصادية، والثاني اتهام الخصوم بذريعة استخدام الأسلحة الكيماوية، وكأنهم، او بالأحرى حكوماتهم، لم تستخدم هذه الأسلحة في فيتنام، وما هو اخطر منها، أي النووية، قبلها في اليابان، ودون وجود حاجة اليهما في الحالين، وبهدف الترهيب، ونزعة الانتقام التاريخية المتأصلة، وإبادة مئات الآلاف من الابرياء.
اذا بدأنا بالأولى، أي الحصارات والعقوبات الاقتصادية، يمكن إحصاء فرض الولايات المتحدة 55,332 (الف) حصارا على روسيا، نصفها في الأسابيع الأخيرة، بعد اقتحام الدبابات الروسية للحدود الأوكرانية، وتجاوزت روسيا بذلك ايران التي جرى فرض 32616 حصار ضدها على مدى السنوات الأربعين الماضية.
نبدأ بهذه المقدمة بمناسبة قيام الرئيس جو بايدن اليوم الأربعاء بجولة أوروبية لحضور ثلاث قمم لمجموعة الدول السبع، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، سعيا لتعزيز وحدة المعسكر الغربي في مواجهة روسيا، وفرض عقوبات جديدة عليها، ثم يعرج يوم السبت لزيارة بولندا دولة المواجهة القادمة، التي ستواجه الخراب والتحول الى دولة فاشلة على غرار جارتها الأوكرانية في المستقبل المنظور.
تشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا وايران والصين انطلاقا من حالة “الإدمان” الأمريكي، وتنفيسا لها، تناسب الإدارة الحالية، ولا تستعدي الراي العام الأمريكي ضدها طالما ان الرئيس بايدن لم يرسل جنديا أمريكيا واحدا، وسيجعل من الأوروبيين وقودا لهذه الحرب بشريا واقتصاديا، مما يعني انه لن تكون هناك أكياس سوداء تحتوي في داخلها جثث الجنود القتلى على غرار حروب أمريكا السابقة في فيتنام وأفغانستان والعراق.
هذه العقوبات الامريكية قد تلحق اضرارا بالاقتصاد الروسي على المدى القصير، ولكنها قطعا لن تجبر الرئيس بوتين على الركوع، ورفع راية الاستسلام، لان الشعب الروسي وأيا كان قائده، من اكثر الشعوب في العالم صلابة، وأشرسها في ميادين الحرب، فمن هزم نابليون، وبعده هتلر لن يصعب عليه هزيمة أمريكا.
إدارة بايدن تستجدي الآن ايران في مفاوضات فيينا النووية للعودة الى اتفاق عام 2015 وتعرض عليها تنازلات مهينة لم تحلم بها، بالاعتراف بها، دولة اقليمية عظمى، ورفع حرسها الثوري من قائمة الإرهاب، الى جانب رفع جميع العقوبات عنها، ما تقدم منها وما تأخر، ما له علاقة ببرامجها النووية او العسكرية التقليدية، او ما ليس له علاقة به، وجرى فرضه لأسباب إسرائيلية بالدرجة الأولى.
من يستجدي ايران الدولة غير النووية (حتى الآن) سيأتي يوم يستجدي فيه روسيا الدولة التي تملك سبعة آلاف رأس نووي، وطورت صواريخ “فرط صوت” (اسرع من الصوت تسع مرات) تستطيع ضرب أهداف على الساحل الشرقي الأمريكي في غضون سبع دقائق على الأكثر.
أمريكا تراهن ان تتحول روسيا الى قوة احتلال في أوكرانيا، تغرقها في حرب استنزاف على غرار ما حدث للقوات السوفيتية في أفغانستان، وترسل الاسلحة لأوكرانيا و”المقاومة” منها ليس لحسم هذه الحرب، وانما لإطالة امدها، وهذا رهان ربما يكون خاسرا، لان فلاديمير بوتين ليس بريجنيف الهَرِم، او غورباتشوف العميل الغربي، وروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي بالأمس، فعندما يتسول زيلينسكي رئيس أوكرانيا “الدمية” نظيره الروسي ويوسط طوب الأرض للاجتماع به بحثا عن وقف لإطلاق النار، ويعلن استعداده مسبقا للتراجع عن خططه للانضمام الى حلف الناتو او الاتحاد الأوروبي، فإن الكتابة على الحائط واضحة وبخط كبير.
عندما يهبط بايدن أيضا في خطابه الى مستويات متدنية، ويصف خصمه الروسي بوتين بأنه “مجرم حرب”، ويحذر من قرب استخدامه أسلحة كيماوية، وهو الذي يحاصر جيشه معظم، ان لم يكن كل، المدن الأوكرانية، بما فيها العاصة كييف، حرصا على أرواح سكانها، فان هذه بدايات لأحد امرين: بداية الخرف، او تعاظم الإحساس بالهزيمة، ونحن نرجح الاثنين معا.
جولة بايدن لن تنجح في تعزيز المعسكر الغربي، وتوحيد صفوفه، وفرض عقوبات جديدة على روسيا اكثر شراسة، بل قد تعطي نتائج عكسية تماما، فعندما ترفض دولا مثل المانيا وفرنسا التخلي عن الغاز والنفط الروسيين، وتراقب قياداتهما ارتفاع معدل التضخم وغلاء المعيشة، واجتياز أسعار النفط حاجز الـ 120 دولارا للبرميل، والقادم اعلى، فهذا يعني ان مهمة بايدن هذه صعبة، ان لم تكن مستحيلة.
الحقيقة الظاهرة للعيان ان بايدن هو المحاصر، وليس الرئيس بوتين، واسألوا قادة السعودية والامارات، ناهيك عن الهند، الذين تخلو عنه، ورفضوا تلبية مطالبه، وانحازوا الى روسيا نكاية به.. والأيام بيننا
Views: 1