لم يكد يمر «قطوع» الإنتخابات على سلام حتى استفاق اللبنانيون على نار جهنم الإقتصادية من باب إرتفاع سعر الدولار في السوق السوداء ومعه إرتفاع مُطرد في أسعار المحروقات والسلع الغذائية. ففور ارتفاع سعر الدولار، قام أصحاب المحطات بوقف توزيع المحروقات كذلك قامت شركات تعبئة الغاز بوقف عملها ومعها الأفران التي قنّنت من إنتاجها تاركة وراءها صفوفا طويلة من المواطنين (تعّدت أحيانًا الـ 200 متر في بعض المناطق) سواء في الأفران التي استمرت بتوزيع الخبر أو محطات الوقود التي بقيت مستمرّة في عملها كالعادة.
منصة صيرفة التي اضطرّت إلى وقف عملها بسبب عمليات المضاربة التي قام بها بعض التجار والصيارفة من خلال شراء الدولار على المنصّة وبيعه في السوق السوداء، وبعد تعرّضها لوابل من الشائعات حول توقف العمل بها وبالتعميم 161، عادت اليوم إلى عملها شبه الطبيعي مع تمديد مصرف لبنان العمل بالتعميم 161 إلى أخر شهر تمّوز.
التطبيقات غير الشرعية عادت إلى عملها غير القانوني من خلال رفع الأسعار بشكلٍ يخالف الواقع الإقتصادي ولكن مُبرّر بمنطق الربح والمضاربة. فإرتفاع سعر صرف الدولار خلال يومي السبت والأحد في وقت كان فيه البلد مُقفلا، يطرح علامات إستفهام عن الأسواق التي تعمل في هذا الوقت وإذا ما كانت هذه الأسواق وهمية وبالتالي الأسعار التي تنتج منها وهمية.
بعض الخبراء عزوا إرتفاع سعر صرف الدولار إلى أسباب سياسية، والبعض الاخر إلى الطلب الكبير على الدولار الناتج من المال الإنتخابي وهذا صحيح. إلا أنه هناك عوامل أخرى على رأسها المضاربة التي وحدها تُبرّر إرتفاع السعر بهذه الحدّة في فترة قصيرة لا تتجاوز اليومين. وبالتالي أين هي الأجهزة الرقابية والأمنية من هذا النشاط غير القانوني؟
في الوقت الذي تستمر فيه الأحزاب والقوى السياسية في الإحتفال بانتصاراتها في الإنتخابات النيابية وفي الوقت الذي تناست فيه الوعود التي أطلقتها حول تأمين عيش كريم للناخبين، ها هي تستمر في تلقّي التهاني وترصد لإحتفالات بالنصر تُشبه الإحتفال بعيد الإستقلال مع بثّها لخطابات طائفية وانقسامية تُحاكي أجواء الفترة التي سبقت الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي.
أما وزراء الحكومة فها هم يحتفلون بإنجازاتهم بتوقيع قروض مع البنك الدولي لشراء القمح متناسين أن هذا أكبر دليل على فشل سياسات كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ الطائف وحتى يومنا هذا! العار العار على سلطة لا تستطيع تأمين عيش كريم لشعب يرزح تحت أعباء أزمة قاتلة وقد أصبح بمعظمه فقيرًا!
المطلوب اليوم من الحكومة تشديد الرقابة على تجار الأزمات. أين الرقابة على التجار والصيارفة؟ أين الرقابة على المستوردين؟ لماذا تشريع سرقة المواطن؟ ألا توجد المحروقات في خزانات المستوردين ومحطات الوقود؟ ألا يوجد الطحين في مستودعات الأفران؟ بئس هذا الزمن الذي تتفرّج فيه السلطة على شعبها الجائع.
أما المجلس الحالي الذي لم تنته ولايته حتى اليوم، لماذا لا يُقرّ قانون كابيتال كونترول يحاكي معاناة المواطنين ويحفظ حقوق المودعين؟ ماذا ينتظر هذا المجلس؟ ألا يعلم أن المعارك السياسية القادمة ستكون طاحنة وقد تُؤخر العمل التشريعي الإصلاحي؟ إنه يعلم ولكن لا قدرة له على ذلك لأنه رهينة الإصطفافات السياسية والتي تحول دون تفضيل مصلحة المواطن على المصلحة الحزبية.
قانون الكابيتال كونترول هو ضرورة اليوم أكثر من أي يومٍ مضى، لكن ليس بالصيغة التي طُرِح بها. فالتجار يقومون بشراء الدولارات في السوق اللبناني ويُحوّلون هذه الأموال إلى الخارج دون أن يكون هناك من ضمانة أن هذه الأموال عادت إلى لبنان على شكل بضائع! أيضًا يقوم المصدرون بإبقاء ثمن البضائع المصدّرة في حساباتهم في الخارج وهم الذي يأخذون الدولار المحلّي لشراء المواد الأولية. أليس من العدل إلزامهم إعادة الدولارات التي أخذوها من السوق اللبناني إلى لبنان؟ هذا ما يجب ضبطه وليس تحاويل أهالٍ لأولادهم الذين يدرسون في جامعات في الخارج!
إنها جهنّم بكل أبعادها، وللأسف نحزن عند رؤية مواطنين يعيشون أتعس مراحل حياتهم، يحتفلون بفوز نواب في المجلس النيابي! إنه لموقف صعب هذا الدفاع المستميت عن سلطة لم تستطع الحفاظ على أدنى حقوق الإنسان لهذا المواطن.
هناك سيناريوهان يطالان المرحلة المقبلة:
السيناريو الأول (إحتمال ضئيل) ينصّ على أن إرتفاع سعر صرف الدولار هو عملية تصحيحية لدولار مُتوقّع أن يكون سعره بين 40 و50 ألف ليرة لبنانية على أن يقوم بعدها المصرف المركزي بالحفاظ على هذا المستوى بالتوازي مع الإصلاحات المُتفق عليها مع صندوق النقد الدولي.
السيناريو الثاني (الأكثر إحتمالًا) ينصّ على أن ما يحصل هو الفوضى وأن المواطن متروك لمصيره في المرحلة المقبلة. هذا المصير قد يكون طوابق سفلى في جهنّم يُلامس فيها سعر صرف الدولار مستويات عالية جدًا، وتتخطى فيها صفيحة البنزين وعبوة الغاز… المليون ليرة. هذا الوضع قد نصل إليه سريعًا في ظل التطور السريع لمجريات الأمور التي تشير إلى فقدان السيطرة، خصوصًا أن رفع الأسعار يمنع ضمنيًا إنخفاض الدولار تحت طائلة خسارة التجار والمضاربين!
مافيات التجار والصرافين تمنع إنخفاض الدولار ولا مصلحة لها في إنخفاضه وهذه حقيقة لا يمكن لأحد نكرانها! فالمعروف أنه وعند وصول الدولار في كانون الأول من العام الماضي إلى مستويات 33 ألف ليرة للدولار الواحد، كان التجار يسعرون السلع والبضائع على سعر دولار يوازي 35 ألف ليرة. وعند إنخفاض سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى 20 ألف ليرة بعد تعميم مصرف لبنان 161، أبقى التجار سعر صرف الدولار في مبيعاتهم على مستوى 33 ألف ليرة. ويكفي النظر إلى حسابات هؤلاء لمعرفة فظاعة ما يرتكبونه بحق الشعب اللبناني. والأصعب في الأمر أنه ومع عودة الدولار إلى الإرتفاع، ها هم يرفعون سعر صرف دولار المبيعات إلى مستويات تلامس الـ 37 ألف ليرة!
إذا المسار الذي تتجه إليه الأمور حاليًا هو مسار كارثي وقد يتحوّل إلى غضب شعبي عارم تعم معه الفوضى في كل لبنان. فيا أصحاب المعالي والسعادة، رأفة بالشعب، قوموا بوضع حدّ لهذا المسار الكارثي.
Views: 5