لماذا الدوحة؟ وهل ستنتقل المُفاوضات النوويّة الإيرانيّة الأمريكيّة إلى وضع “المُباشرة”؟ وما هي “المُكافأة” الأضخم التي تنتظرها إيران للتخلّي عن سياسة كسب الوقت والتهرّب من التوقيع؟ وهل كان لقاء “شمخاني بوريل” هو النّقطة الحاسمة؟ وما هي شُكوكنا؟
عبد الباري عطوان
الجديد في المُباحثات “غير المُباشرة” التي انطلقت اليوم في الدوحة بين الولايات المتحدة وإيران التي تهدف إلى إزالة المسائل العالقة التي تمنع إعادة إحياء الاتفاق النووي، يتمثّل في أنها “ثُنائيّة” أوّلًا، وفي دولةٍ صديقة جدًّا للدّولتين ثانيًا، وقد تُركّز على قضايا أمنيّة وليس تقنيّة نوويّة فقط ثالثًا.
نشرح أكثر ونقول إن جوزيف بوريل وزير خارجيّة الاتّحاد الأوروبي عندما قام “بزيارةِ إنقاذٍ” إلى طِهران بعد وصول مُباحثات فيينا إلى طريقٍ مسدود قبل أسبوع لُوحِظ أنه التقى الجِنرال علي شمخاني رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إلى جانب لقائه مع السيّد حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجيّة، ممّا يعني أنّه، أيّ بوريل، كان يحمل في جُعبته “تنازلاتٍ” أمنيّة أمريكيّة تتعلّق بدور إيران الإقليمي، ورفع كامل للعُقوبات الأمريكيّة، سواءً تلك المُتعلّقة بالعودة إلى الاتفاق النووي، أو المفروضة قبل التوصّل إليه.
مُعظم الشّروط الإيرانيّة “المُعلنة” التي قِيل إنها حالت دون التوصّل إلى اتّفاقٍ في مُفاوضات فيينا، مِثل رفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأمريكيّة، أو مُطالبة إيران بضماناتٍ بعدم انسِحاب واشنطن من أيّ اتّفاق جديد على غِرار ما فعل الرئيس السّابق دونالد ترامب، كانت “ثانويّة” و”تعجيزيّة” وتُخفي حقائق ومواقف جوهريّة لإيران غير مُعلنة.
فوضع الحرس الثوري على قائمة الإرهاب، أو رفعه منها، ليس قضيّة محوريّة بالنّسبة إلى إيران، فماذا يخسر أعضاء الحرس الثوري من وضعهم على قائمة الإرهاب، ومنعهم بالتّالي من دُخول الولايات المتحدة، أو رفع الحظر عنهم في هذا المِضمار، فلا نعتقد أن هؤلاء كانوا يتحرّقون شوقًا لقضاء إجازاتهم السنويّة كسُيّاح في الولايات المتحدة، فإذا كانت أربعون عامًا من الحِصار على إيران فشلت في تركيع الشّعب الإيراني ورُضوخه لشُروط الاستِسلام الأمريكيّة، فهل سيُؤدّي رفع هذا الحرس من قائمة الإرهاب إلى تنازلِ إيران عن جميع مكاسبها النوويّة الهائلة؟
أمّا النّقطة الثانية المُتعلّقة بطلبِ إيران ضمانات بعدم انسحاب أمريكا من أيّ اتّفاقٍ جديد، فهي مسألة ثانويّة أيضًا، فإيران التي تضم مراكز أبحاث وعُلماء كِبار، يعرفون أمريكا ودُستورها ربّما أكثر من نُظرائهم الأمريكيين أنفسهم، تعلم جيّدًا أن الإدارة الحاليّة لا تملك أيّ قُدرة على تقديم مِثل هذه الضّمانات، مُضافًا إلى ذلك أن مُعظم استِطلاعات الرأي الأمريكيّة تُؤكّد أن فُرص الديمقراطيين بقيادة جو بايدن أو غيره، للفوز في الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة، أيّ بعد عامين تقريبًا، ستكون محدودة جدًّا، إن لم يكن مُستحيلة.
اختيار الدوحة التي تُعتبر العاصمة الأقرب لقلب الإدارة الأمريكيّة الحاليّة، وتحظى بوضع الشّريك المُفضّل لحلف الناتو، وتتواجد على أرضها أكبر قاعدة عسكريّة أمريكيّة (العيديد)، لم يكن من قبيل الصُّدفة، وإنّما لإبعاد الآخرين عن هذه الجولة من المُفاوضات الحاسمة، التي لا نستبعد أن تكون “مُباشرة” أو “أكثر مُباشرة” هذه المرّة، حيث سيكون الوسيط القطري القريب من الطّرفين هو الرّاعي لها.
عدم الوصول إلى “حَلٍّ” يفتح الطّريق للعودة إلى الاتّفاق النووي يُناسب إيران أكثر من أيّ وقتٍ مضى، خاصَّةً بعد أن أصبحت دولة حافّة نوويًّا، وباتت تملك كُل الخُبرات والمواد اللّازمة لصُنع “قنابل” نوويّة، هذا إذا لم تكن قد صنعتها فِعلًا، فإذا كان وزير الخارجيّة الأمريكي أنتوني بلينكن قال في اليوم الأوّل لتولّيه منصبه، أيّ قبل عام ونصف العام تقريبًا، إن إيران على بُعد ثلاثة أشهر لإنتاج أسلحة نوويّة فقد مَرَّ عام وثلاثة أشهر مُنذ إطلاق هذه “النّبوءة”، والأهم من ذلك أن إيران طِوال هذه الفترة كانت في حِلٍّ من أيّ التِزامٍ بالاتّفاق النووي، وأغلقت جميع كاميرات الرّقابة، وطردت المُراقبين التّابعين لوكالة الطّاقة النوويّة الدوليّة، ورفعت نسب التّخصيب إلى أكثر من 60 بالمِئة، ونصبت أجهزة طرد مركزيّة أكثر حداثةً وتَقَدُّمًا، وأقامت مفاعل نوويّة في بَطنِ الجِبال العِملاقة.
خِتامًا نقول إن الإيرانيين دُهاةٌ في لُعبة كسب الوقت، وعدم إعطاء إجابات حاسمة بنعم أو لا، ونجحوا في كسب معركة الوقت و”تدويخ” المُفاوضين والمسؤولين الأمريكيين بالتّالي، ولا نعتقد أنهم سيُغيّرون مواقفهم الآن، وهم ينتمون إلى محور الحِصان الروسي الصيني الكاسب، وأمريكا تفقد زعامتها للعالم وتخسر حربها في أوكرانيا، وقد تُواجِه حربًا أهليّةً داخليّةً وشيكةً اللهمّ إلا إذا جاءتهم أمريكا عارية مُستسلمة رافعةً الرّايات البيضاء، بل والأكثر بياضًا، وحتى هذا الاستِسلام قد يُقابَل بكلمةِ “لا” كبيرة جدًّا، ولكن بطُرُقٍ غير مُباشرة كالعادة، مثلما حدث في المُفاوضات الماراثونيّة الحاليّة “النّافقة” في فيينا.. واللُه أعلم.
Views: 3