Smiley face Smiley face Smiley face

سوريا وتركيا والاقتصاد ثالثهما: الفرص والتحديات

 زياد غصن

إلى جانب أولوية البعد الأمني في تقرير مستقبل علاقات تركيا وسوريا، فإن للبعد الاقتصادي حضوره الفاعل والمؤثر لاعتبارات عديدة تتعلق بالمصالح المباشرة.

على الرغم من أنَّ جميع المؤشرات تذهب إلى التأكيد أن حدوث تحوّل سياسي في علاقات دمشق مع أنقرة أمر ممكن، لكنه يحتاج إلى وقت ليس قليلاً، بالنظر إلى ثقل الملفات المطروحة التي لا يمكن للجانبين تجاهلها في أي صيغة للتفاهم قد تبرم بينهما، ويعاد بموجبها إحياء علاقات ثنائية، ولكن قلبها موقف حكومة أنقرة من الأزمة السورية رأساً على عقب.

وإلى جانب أولوية البعد الأمني في تقرير مستقبل علاقات الجارين، فإن للبعد الاقتصادي حضوره الفاعل والمؤثر لاعتبارات عديدة تتعلق بالمصالح المباشرة للبلدين، وحتى لدول الإقليم. ولذلك، فهو، في نظر الكثير من المراقبين، قد يكون بمنزلة أولى خطوات التطبيع المقترحة في مسعى البلدين لاستعادة علاقاتهما الطبيعية. فما هي الملفات الاقتصادية التي تلتقي فيها مصالح دمشق وأنقرة؟ وما العوامل الضاغطة نحو تعاون ثنائي في الشأن الاقتصادي؟

الأكثر أهمية
ثلاثة مجالات للتعاون الاقتصادي طغت على علاقات البلدين في شهر عسلها الطويل الذي دام عدة سنوات قبل أن يسقط ويتحول إلى ما يشبه إعلان حرب مع الأشهر الأولى من عمر الأزمة السورية. هذه الملفات الثلاثة لا تزال تحتفظ اليوم بأهميتها الاستراتيجية لكلا البلدين، بل إن الأزمة السورية، وما تبعها من قطيعة سياسية واقتصادية بين البلدين، وما يشهده العالم من تقلبات اقتصادية، أعادت التأكيد مجدداً على محورية هذه الملفات في بنية المصالح الاقتصادية لكل البلدين.

أولاً- تجارة الترانزيت
عام 2010، كان هناك أكثر من 150 ألف سيارة شاحنة تركية تدخل الأراضي السورية بإعفاءات وتسهيلات خاصة. جزء من تلك السيارات كان مقصده النهائي الأسواق السورية، والجزء الأكبر منها كان يعبر الأراضي السورية ترانزيت باتجاه الأردن والخليج العربي، فيما كان عدد السيارات الشاحنة السورية المتجهة إلى الأراضي التركية وعبرها إلى الأسواق الأوروبية لا يزيد على 3.6 آلاف سيارة شاحنة. هذا كله توقف مع سقوط معبر باب الهوى بيد المسلحين المدعومين من أنقرة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

لا تتوقف أهمية تجارة الترانزيت على الرسوم المالية التي يجري تحصيلها من السيارات الشاحنة المحملة بالبضائع، بل إن خفض الوقت والتكاليف في وصول السلع والبضائع إلى مقصدها هو ما يدفع المستوردين والمصدرين إلى البحث عن أفضل الطرق وأقصرها.

واليوم، مع ارتفاع تكاليف النقل البحري عالمياً، واضطرار التجار الأتراك إلى تحمّل المزيد من التكاليف في إيصال بضائعهم إلى الأسواق الخليجية، سواء أثناء استخدامهم قناة السويس أو التوجه نحو مرفأ حيفا في الأراضي العربية المحتلة، ومنه نحو الأردن، فدول الخليج، فإنَّ إعادة تشغيل طريق الترانزيت عبر الأراضي السورية تشكّل أمنية لمعظم شركات النقل التركية والأوروبية، وللمنتجين والتجار الأتراك، ولأسباب اقتصادية صرفة.

أما سوريا، التي تعاني حالياً ضائقة اقتصادية شديدة، فإنَّ عودتها لاستثمار موقعها الجغرافي كمعبر أساسي لتجارة الترانزيت في شرق المتوسط من شأنها أن تؤمن لها إيرادات سنوية كبيرة من القطع الأجنبي، وهي إيرادات كانت تصنف سابقاً، بحسب توقعات رئيس اتحاد شركات النقل الدولي صالح كيشوت، من بين أهم إيرادات البلاد، ولا سيما بعد صادرات النفط والقمح، فضلاً عن نجاح دمشق في تأمين احتياجات أسواقها من السلع والمواد الضرورية، وتكاليف أقل مما هو قائم حالياً.

لهذا، إن إعادة فتح معبر باب الهوى وغيره من المعابر الحدودية أمام حركة التجارة الثنائية والإقليمية تشكل مصلحة مشتركة للحكومتين اللتين تحاولان التخفيف من حجم الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الأزمات الإقليمية والدولية.

ثانياً- التعاون الاستثماري والتجاري
تأمين بيئة استثمار ملائمة وجاذبة لمستثمري البلدين كان أحد الأهداف الرئيسية التي عملت على تحقيقها اللجان والمجالس المشتركة قبل العام 2011، والتي أثمرت تأسيس عشرات المشروعات الاستثمارية الخاصة والمشتركة بين رجال الأعمال في كلا البلدين. وكانت التقديرات الإحصائية تتحدث عن حصول المستثمرين الأتراك على موافقات لإقامة مشروعات في سوريا بقيمة تصل إلى نحو 250 مليون دولار، لكن إذا كانت تركيا قد استقطبت منذ بداية الأزمة السورية آلاف التجار والصناعيين السوريين، ونجحت في تحفيزهم على ضخ مليارات الدولارات في اقتصادها، فأين تكمن مصلحة سوريا اليوم في هذا الملف؟

عملياً، تمتلك الحكومة السورية ورقة اقتصادية مهمة يمكنها أن تشكل عنصر جذب للشركات والمستثمرين الأتراك، وللسوريين الموجودين كمستثمرين في تركيا. عملية إعادة الإعمار، التي ستنطلق عاجلاً أم آجلاً، هي، في نظر مستثمرين أتراك، جبهة عمل اقتصادية يمكنها أن تسهم في تدعيم الوضع الاقتصادي الداخلي، وتعزيز المكانة الإقليمية للشركات التركية، والتي تبحث كما يبدو عن دور اقتصادي ما في دول أخرى أيضاً، من قبيل ليبيا واليمن ومنطقة الخليج وغيرها، في حين أنها ستمثل بالنسبة إلى دمشق نجاحاً في مسعاها لكسر طوق العقوبات الغربية والأميركية، والتي تستهدف إجهاد أي محاولة إقليمية أو دولية لمساعدة دمشق في هذا الملف، فضلاً عن الاستفادة السورية من خبرة الشركات التركية في مجالات أخرى متعددة.

على جبهة العلاقات التجارية بين البلدين، تبدو الأمور أكثر حساسية أو قد تحتاج إلى وقت أكبر في النقاش، إنما في النهاية تقتضي مصلحة البلدين تنشيط التعاون التجاري وإعادته إلى مستوياته قبل الأزمة، وإن كانت أنقرة تقر بإدخالها سلعاً وبضائع إلى الشمال السوري بقيمة تقارب قيمة صادراتها الرسمية إلى سوريا في العام 2010، لكن انسحاب تركيا المرتقب من الأراضي السورية يعني توقف عمليات التهريب والحاجة إلى تفاهم مع الحكومة السورية حول ملف التبادل التجاري والشروط والأحكام التي سيعمل بمقتضاها، إنما هل ستعاود دمشق فتح أبوابها للسلع والمنتجات التركية كما فعلت قبل العام 2011 أم أنها ستضع ضوابط جديدة تحمي بموجها صناعتها التي تضررت مرتين؛ الأولى مع دخول منطقة للتجارة الحرة مع تركيا حيز التنفيذ في العام 2008، والأخرى عندما جرى تفكيك معامل حلب وإدلب وترحيلها إلى الداخل التركي بعد العام 2011.

ثالثاً- السياحة
على مشارف الأزمة السورية، كانت البيانات التركية تتحدث عن دخول أكثر من مليون ونصف مليون سائح سوري إليها، إضافة إلى آلاف السياح القادمين من دول الخليج براً عبر الأراضي السورية، لكن في المقابل لم يكن عدد السياح ونزلاء الفنادق والمبيت الأخرى من الأتراك في سوريا قليلاً.

ووفقاً للبيانات الرسمية، هناك ما يقارب 250 ألف تركي كانوا من نزلاء الفنادق بمختلف تصنيفاتها، إضافة إلى نحو 615 ألف تركي كانوا من نزلاء منشآت المبيت الأخرى غير الفنادق. وتالياً، إن استعادة القطاع السياحي في سوريا عافيته يمكن أن تجعله مجدداً رافداً مهماً لإيرادات القطع الأجنبي للبلاد من جهة، وتشغيل المنشآت السياحية التي جرى توظيف مليارات الليرات فيها من جهة ثانية. وهذا هو حال تركيا أيضاً، سواء بالنسبة إلى السوريين القادرين على تحمل أعباء السياحة الخارجية، أو لجهة تسهيل عبور السياح القادمين براً من لبنان والأردن والعراق ودول الخليج باتجاه المدن التركية.

بغداد ودمشق
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، خطت دمشق وبغداد أول خطوة نحو تطبيع علاقاتهما الثنائية عبر البوابة الاقتصادية والتجارية، وذلك بعد قطيعة سياسية واقتصادية كاملة زادت مدتها على 15 عاماً بين حكومتي البعث. قد تكون ظروف تلك الحادثة تبدو مختلفة عن الوضع الراهن حالياً لعلاقات دمشق بأنقرة، لكن عندما يتم التوصل إلى تفاهمات سياسية وأمنية بين الجانبين، يصبح من السهل على الاقتصاديين ورجال الأعمال صياغة ما يريدون ويطمحون إليه، ليبقى الأمر مرهوناً برغبة السياسيين: إلى أي حد يراد للعلاقات الاقتصادية أن تذهب؟

الميادين نت

Views: 10

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي