مثل واشنطن، تنظر لندن إلى الحرب في أوكرانيا على أنها فرصة لاستنزاف روسيا وإضعاف منافس للقوة العظمى، لكن الأزمة الحاصلة والتي بدأت سيرتها ترتفع في المملكة المتحدة، أن لندن باتت أكثر ميلاً -بشكلٍ خطير- إلى الأمام في دعمها لكييف من معظم أعضاء التحالف المناهض لروسيا عبر الأطلسي.
نقلاً عن القادة العسكريين الأوكرانيين، أشار تقرير نشرته صحيفة “تايمز” في 15 أبريل/نيسان إلى أن “القوات الخاصة البريطانية دربت القوات المحلية في كييف للمرة الأولى منذ بدء الحرب مع روسيا”. وبعد أربعة أشهر، وصف توم روغان من صحيفة “واشنطن إكزامينر”، نقلاً عن معلومات مستقاة من “ثلاثة مصادر حكومية غربية”، تفصيلياً، كيف كانت القوات الخاصة البريطانية، التي يشرف عليها جهاز المخابرات البريطاني “MI6″، تعمل في نقاط “قريبة جداً من الخطوط الأمامية” لمساعدة القوات الأوكرانية على تنفيذ ضربات “في ساحة المعركة العميقة” خلف الخطوط الروسية لإضعاف عقد القيادة والقطارات اللوجستية ومستودعات الإمداد.
هذا الانتشار والتوغل للقوات البريطانية أشرف عليه قائد الجيش البريطاني المتقاعد، الجنرال مارك كارلتون سميث، وهو رئيس سابق لقيادة القوات الخاصة في المملكة المتحدة يحظى باحترام شديد من قبل كوادر المشاة القتالية في الجيش، وهو ما يعكس اهتماماً شخصياً ومهنياً من قبل رئيس الوزراء بوريس جونسون ومؤسسة الأمن القومي في المملكة المتحدة لصالح الدعم النشط للغاية لأوكرانيا. ويبدو أن وزيرة الخارجية البريطانية، والمرشحة بقوة، لخلافة جونسون، ليز تراس، مستعدة لمواصلة هذا الجهد.
لم تكن هذه الشهية وهذا الجموح للسيطرة والنفوذ البريطاني وليد لحظة الحرب الجديدة، بل أكده جونسون في خطاب ألقاه عام 2016، حين حدَّد كوزير للخارجية آنذاك ركائز السياسة الخارجية للمملكة المتحدة، بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي. وقال: “نحن بطل الرواية. بريطانيا عالمية تدير سياسةً خارجيةً حقيقية”، بينما دعا إلى المزيد من اتفاقيات “التجارة الحرة” وتعزيز وإصلاح “النظام الدولي القائم على القواعد”.
بعد ذلك، وبصفته رئيساً للوزراء، أصدر جونسون المراجعة المتكاملة لعام 2021: “بريطانيا العالمية في عصر تنافسي”، والتي حددت استراتيجية القوَّة الصلبة والاستثمارات لفترة من “المنافسة المنهجية” بين القوى المتوسطة والعظمى.
من هنا، تبنَّت طموحات “بريطانيا العالمية” في أحدث مراجعة دفاعية لها، سياسةً على طريقة الاستراتيجية الأميركية الكبرى. وباتت الثقافة الاستراتيجية البريطانية تلاحق ما تتجه نحوه واشنطن، إذ أن مراجعات الدفاع الدورية للمملكة المتحدة، والتي صدر آخرها في آذار/مارس، هي الأكثر وضوحاً. في وثيقتين – مراجعة متكاملة للحكومة وورقة قيادة دفاعية تركز على الجيش – طرحت حكومة جونسون مخططاً يلزم المملكة المتحدة بدور عالمي رائد في كل شيء: من مكافحة تغير المناخ وصولاً إلى إصلاح النظام الصحي العالمي.
ومع ذلك، فإن ما جذب أكبر قدر من الاهتمام هو المبادرات المتعلقة بالدفاع: “الميل” إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وزيادة الترسانة النووية البريطانية، وأكبر برنامج للاستثمار العسكري منذ الحرب الباردة. وفي مقدمة المراجعة المتكاملة، كتب جونسون: “عددٌ قليل من الدول مستعدة بشكل أفضل للتنقل في التحديات المقبلة”.
ضغطٌ كهذا قد يكون صعباً على أي بلد متوسط الحجم، مع العلم أن الوضع الحالي في المملكة المتحدة لا يساعدها على الإطلاق. فمن الناحية الاقتصادية، ضرب فيروس كورونا بريطانيا بقوة، ما أدى إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10٪ تقريباً في عام 2020. كما لا تزال البلاد سياسياً بحالة متفككة، مع تزايد الدعوات لإجراء تصويت آخر على الاستقلال في اسكتلندا.
وفي إحدى الركائز الأساسية للمراجعة، وهو الميل بين المحيطين الهندي والهادئ، تسعى المبادرة إلى جعل بريطانيا “الشريك الأوروبي الذي يتمتع بأوسع حضور وأكثرها تكاملاً في منطقة المحيطين”. وينبغي تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل: زيادة البصمة العسكرية والدبلوماسية، بما في ذلك نشر مجموعة ضاربة من حاملات الطائرات، والسعي إلى إبرام صفقات تجارية، والمشاركة مع الهيئات الإقليمية مثل رابطة أمم جنوب شرق آسيا.
ولكن على النقيض من الولايات المتحدة، فإن البريطانيين، ببساطة، يفتقرون إلى الثروة أو السلطة أو الموقع الجغرافي للعب دور قوي هناك. التظاهر بخلاف ذلك يرقى إلى نوع من مشروع الغرور الوطني.
نفس هذه الاستراتيجية الكبرى، هي التي حددت مسار المملكة المتحدة في أوكرانيا، والتي كان لتراس، دور قيادي أساسي في تشكيل سياسة بلادها تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا، مع العلم أن أدائها الدبلوماسي كان غير ملحوظ، وعلى النقيض، أدى في مرحلةٍ ما إلى نتائج عكسية.
تعتقد تراس، تماشياً مع قناعات رئيسها، أن بلادها ستكون أفضل حالاً عندما تلعب دور “نائب العمدة” لمساعدة الولايات المتحدة في دور “شرطي العالم”. ومع ذلك، فإن النشاط البريطاني سبق خطورةً النشاط الأميركي. وكانت أولى مفاعليه تهديد سياسة إدارة بايدن المعلنة بأنها لن تتدخل بشكل مباشر. هدفَ هذا الإعلان إلى كبح جماح عدوانية بعض أعضاء “الناتو”، بقدر ما كان إشارةً إلى موسكو بأن القوات الأميركية المنظمة في أوروبا الشرقية غير مستعدة لدخول منطقة حرب نشطة.
تجاوز التدخل البريطاني في أوكرانيا الحدود الخارجية لتحمل المخاطر، وهو ما يعارض استراتيجية بايدن. الاستخبارات الأميركية أيضاً خالفته أيضاً، إذ حسب صحيفة “نيويورك تايمز”، تمكَّنت القوات الأوكرانية من استهداف وقتل الجنرالات الروس الذين يقودون القوات من الخطوط الأمامية، من خلال تحديد أميركي لأهداف روسية عالية القيمة بينما نفذ الأوكرانيون الضربة. ومن هذا المنطلق، من الصعب التشكيك في اتهام روسيا بأن الغرب يشن حرباً بالوكالة ضدها في أوكرانيا.
وبالنظر إلى عمق تورط المملكة المتحدة على الأرض، سيكون من غير المنطقي استبعاد تجنب المواجهة المباشرة بين العسكرييين البريطانيين والقوات الروسية. كما لا يمكن استبعاد أن تبدأ موسكو باستهداف قاس لوحدات القوات الخاصة الغربية التي توجه ضربات ضد قواتها في أوكرانيا.
كل هذا يفرض على رئيس الوزراء البريطاني الجديد العمل مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي لتطوير خطة انتقالية مشتركة من شأنها تجهيز القوات الأوكرانية للقيام بمهامها دون مساعدة مباشرة من المشغلين العسكريين الغربيين، الذين يجب أن يبدأوا على الفور في مغادرة البلاد. والأهم من ذلك، العمل على إعادة فتح القنوات الدبلوماسية مع موسكو، سواءً على المستوى الثنائي أو من خلال حلف شمال الأطلسي مباشرة، للبدء في التحقيق في إمكانية وقف إطلاق النار.
لكن، وخلال حملتها داخل الحزب لمنصب رئيس الوزراء، لم تظهر تراس أي ميل لخفض تصعيد تورط بلادها في أوكرانيا. وإذا تم انتخابها، فمن الأفضل لصناع السياسة الأميركيين أن يوقفوا زخم أي تدخل بريطاني آخر على الأرض، وأن يحثوا على الانسحاب من الخطوط الأمامية في أوكرانيا، من أجل السير في الأولوية الأولى للغرب، وهي تجنب “الحرب العالمية الثالثة”، كما قال بايدن ذات مرةٍ بصراحة.
الميادين
Views: 1