لم نُبالغ عندما قُلنا في مقالة أمس الأوّل في هذه الصّحيفة إن الرئيس فلاديمير بوتين لن يتردّد لحظةً في الرّد على الهُجوم الذي استهدف “جِسر القِرم” واتّهم المُخابرات الأوكرانيّة بالوقوف خلف هذا العمل “الإرهابي”، وها نحن نصحوا من النوم صباح اليوم الاثنين على قصفٍ صاروخيٍّ “دقيق” على بُنى تحتيّة في كييف وثمانية مُدن أخرى، وخاصَّةً مُنشآت الطّاقة الكهربائيّة، والقيادة العسكريّة والاتّصالات، ومخازن القمح، (ارتفع سِعر القمح 4 بالمئة اليوم).
نعترف بأنّنا، وغيرنا الكثير، لم نتوقّع أن يأتي الرّد الانتقامي بهذه السّرعة، وعلى هذا النّطاق الواِسع، ويُؤدّي إلى قطع الكهرباء عن العاصمة كييف وثماني مُدن أخرى وإغراقها في الظّلام، والأخطر من ذلك أن الرئيس بوتين الذي عقد اجتماعًا طارئًا لمجلس الأمن القومي برئاسته، توعّد في كلمته أمامه بأنّ الرّد الروسي على أيّ هجمات أُخرى مُماثلة سيكون شديدًا، واتّهم أوكرانيا بمُحاولة ضرب خطّ أنابيب غاز “ترك ستريم” الذي يربط روسيا وتركيا (تحت البحر الأسود)، وشنّ ضربات على محطّة كورسك للطاقة النوويّة.
الرئيس الأوكراني وداعموه الأمريكان والأوروبيّون (وبعض العرب)، ارتكبوا خطأً استراتيجيًّا فادحًا عندما استفزّوا الرئيس بوتين وأرسلوا شاحنةً مُفخّخةً لنسف “جسر القرم” الذي كلّف روسيا بلايين الدّولارات، وكان وما زال يُمثّل رمزًا للسّيادة الروسيّة، فهذ الهُجوم، أعفى الرئيس الروسي من حرجٍ كبير، ودفعه إلى الرّد بضربِ البُنَى التحتيّة الأوكرانيّة في نقلةٍ عاليةٍ ومُوسّعةٍ للحرب، فقد كان لافتًا أن الجيش الروسي امتنع، وطِوال الأشهر الثّمانية من عُمُر الحرب، عن المسّ بالبُنى التحتيّة الأوكرانيّة، وخاصَّةً محطّات الكهرباء باعتبارها أهدافًا مدنيّة.
التّصعيد في الحرب الأوكرانيّة باتَ العُنوان الرّئيسي في المرحلة المُقبلة، خاصَّةً من قِبَل روسيا، وتوسيع مُحيط بُنوك الأهداف في العُمُق الأوكراني وعبّر عن هذا بوُضوحٍ ديمتري ميدفيديف نائب الرئيس بوتين في مجلس الأمن القومي، والرئيس الروسي السّابق، عندما قال في تغريدةٍ على حسابه على “التّلغرام” “انتهت الحلقة الأولى من الحرب، وستكون هُناك حلقات أُخرى، ومن وجهة نظري يجب أن يكون الهدف القادم هو كييف والتّفكيك الكامِل للنّظام السّياسي في أوكرانيا”.
الصّواريخ الثّمانية الدّقيقة التي ضربت المُدن الأوكرانيّة، أثارت حالةً من الارتياح في صُفوف أنصار الرئيس بوتين القوميين في روسيا، لأنّها جاءت بعد سلسلة من الانتِكاسات للجيش الروسي في بعض الأقاليم التي تمّ ضمّها أخيرًا في جنوب وشرق أوكرانيا، حتى أنّ الرئيس الشّيشاني رمضان قاديروف الذي تجرّأ على انتقاد أداء الجيش الروسي في الفترة الأخيرة أعرب عن ارتِياحه، وقال “أنا سعيد مِئة بالمِئة الآن”.
تعيين الجِنرال سيرغي سوروفيكني قائدًا للقوّات الروسيّة في أوكرانيا لم يَكُن من قبيل الصّدفة، لأنّ المرحلة التصعيديّة القادمة للجيش الروسي في أوكرانيا تتطلّب جِنرالًا مثله يملك خبرةً عميقةً في حرب العِصابات والهجَمات الصاروخيّة، وضرب البُنَى التحتيّة، بحُكم قيادته للقوّات الروسيّة في سورية، وقبْلها في الشيشان وطاجيكستان، وانتِصاره على التمرّد فيها جميعًا، واستِعادة العديد من المُدن والقُرى من الجماعات المُسلّحة.
الرئيس بوتين يُراهِن على عُنصر الوقت الذي يعتقد أنّه يسير لصالحه، ويخدم مُخطّطاته، ويتوقّع الخبير الروسي ألكسندر نزاروف “أن الحرب الأوكرانيّة لن تستمرّ أكثر من عام، أو عامين في الحدّ الأقصى، لأنّ الغرب لا يستطيع الصّمود لفتراتٍ أطول في حربِ استنزافٍ ماليّةٍ وعسكريّة”.
قصف “جسر القِرم” كانَ وما زال يُشَكِّل إهانةً شخصيّةً للرئيس بوتين، لما تسبّب له من تصاعدِ حالة السّخط والغضب في أوساط الشّعب الروسي، ولهذا كان من المُستحيل عليه أن يبْتَلِع هذه الإهانة أو يصمت عليها، لأنّ الصّمت قد يعني المزيد من الهجمات في العُمُق الروسي وزعزعة تماسكه واستِقراره، ممّا قد يُؤدّي في نهاية المطاف إلى انهِيار النّظام.
مثلما كان الجليد السّلاح الأقوى الذي هزم هتلر عندما وسّع نِطاق الحرب العالميّة الثّانية وغزا روسيا، ومن قبله نابليون، فإنّ انخِفاض درجات الحرارة في مُعظم أوروبا وخاصَّةً شِمالها الأكثر عداوةً، مع مقدم فصل الشّتاء، قد يُؤدّي إلى تِكرار السّابقة نفسها، إن لم يكن أكثَر فتْكًا في ظِل العجز الكبير في إمدادات الغاز والنّفط، والغلاء الفاحش، والانهِيارات المُتسارعة للأزَمات الاقتصاديّة في القارّة الأوروبيّة، وتكاليف الحرب التي تزيد عن ما يَقرُب من عشرة مِليارات دولار شهريًّا، فمُعدّلات التضخّم تتصاعد لارتفاع أسعار الطّاقة، والنّظام المَصرفي الغربي يتآكَل، وهُناك مُؤشّرات على انهِيارِ هرم الدّيون العالميّة، وإفلاس أعدادٍ كبيرةٍ من الشّركات الكُبْرى، ولعلّ مشهد طابور السيّارات أمام محطّات الوقود في باريس ولأكثرِ من عدّة كيلومترات أحد أبرز الأمثلة.
ماضي أمريكا القريب، وحاضِرها الآنِي مَليءٌ بالهزائم في العِراق، وأفغانستان، وفي شِمال جورجيا حيث أخذت روسيا الإقليم الشّمالي وأقامت دولتين فيه (ابخازيا وأوسيتا) وهذا ما يُفَسِّر عدم إرسالها جُنْديًّا واحدًا إلى أوكرانيا حتّى الآن، ومن غير المُعتَقد أن تكون أوكرانيا استثناءً في نظر الكثير من المُحلّلين الموضوعيّين.
عندما تتمرّد دول الخليج على أمريكا وتَشُقّ عليها عصا الطّاعة، وتقف في خندق موسكو بتأييدها اتّفاق “أوبك بلس” فاعلم أنّ فُرَص أمريكا في الفوز بالحرب الأوكرانيّة والاستِمرار في زعامة العالم تبدو محدودةً، وأنّ النظام العالمي القديم قد انهار وأن النظام الجديد بزعامة روسيا والصين قد بدأ، وهذه هي سُنّة الحياة.. والأيّام بيننا
Views: 16