لا تحتاج سوريا المنتصرة في الحرب على العدوان الإقليمي والدولي الأكبر في الألفية الثالثة، لا تحتاج إلى شهادة في العروبة من أحد وبخاصة من بدو النفط. ولا إلى تفسير سرياني لانتصارها ولا إلى استعادة أطروحات المستشرقين العنصرية، لقد انتصرت سوريا بمجتمعها التعدّدي وبحلفائها التعدّديين. انتصرت بوصفها دولة عربية مركزية سيكون لانتصارها ما بعده على كل صعيد.
انتصرت سوريا بوصفها دولة عربية مركزية سيكون لانتصارها ما بعده على كل صعيد
على الرغم من تهميشها في فرنسا بلد المنشأ، تعود أفكار أرنست رينان المستشرق العنصري، للانتشار بين الفينة والأخرى كلما شهدت منطقتنا العربية صراعات يتداخل فيها المحلي والإقليمي والدولي كما هي الحال في سوريا.
في حكمه العرقي على منطقتنا، قال رينان إن العرق الآري متفوّق بالضرورة والطبيعة على العرق السامي واختزل العرق الأول في أوروبا والغرب وحصر الثاني بالمسلمين. وخلص إلى أن "من يدخل الإسلام من البربر والسودان والقفقازيين والماليين والمصريين والأحباش يفقد هويته "وأن على هؤلاء أن يستعيدوا هويّتهم بخروجهم من الإسلام الذي حصره بشبه الجزيرة العربية فقط، معتبراً أن الشام والعراق ومصر والمغرب هي مناطق مستعمرة من العرب بعد أن فقدت هويتها الأصلية. وتوقّع رينان أن يزول الإسلام عندما تسود الفردية في بلادنا ذلك أنه "دين ودولة ويزول عندما تنتزع الدولة منه ".
كانت هذه الأفكار العنصرية شديدة الإنتشار في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين. وكانت في فرنسا حاضرة بقوّة خلال الفترة الكولونيالية وبخاصة في شمال إفريقيا وبلاد الشام. وبما أن الإسلام هوالسلاح الأمضى للمقاومة ضدّ الكولونيالية وهو الذي يُوحّدُ السكان لذا كان لا بدّ من مواجهة المقاومة الإسلامية باستعمار ذهني يفكّك الإجتماع الذي يُولِّدُ المقاومة فكانت فرضية العرب والبربر التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا وبالصيغة التي وردتْ في فكر أرنست رينان العنصري أي أن البربر فقدوا هويّتهم العرقية عندما اعتنقوا الإسلام.
إن ما يصحّ على شمال إفريقيا يصحّ أيضا على بلاد الشام. هنا توجد تشكيلة عرقية واسعة متضرّرة بحسب رينان: آشوريون وكلدانيون وفينيقيون وبخاصة سريان. وكيف لا يكون المتضرّر الأكبر هو السريان "الذين استعمروا من طرف العرب وفقدوا هويّتهم بعد دخولهم الإسلام مُكرهين".
في مناهج التعليم العربية استبطان لهذا الفصل من دون الأخذ بنهاياته. فنحن درسنا جميعاً أن العراق بابلي الأصل وسوريا ولبنان فينيقيان واليمن سبئي وشمال أفريقيا بربرية ومصر فرعونية وهكذا دواليك. وفي المناهج التربوية يأتي العرب من الخارج ويستقرّون بعد إلغاء الحضارات التي كانت قائمة، الأمر الذي ينعكس في طروحات مضادّة خلال الأزمات والحروب والصراعات المُتداخلة كما كان الأمر خلال الحرب الأهلية في لبنان حيث ظهر تيار فينيقي يدعو إلى التخلّي عن اللغة العربية والكتابة باللهجة اللبنانية المفترض أنها فينيقية ، وقد أسّس الشاعر اللبناني سعيد عقل صحيفة لهذه الغاية وامتدح على صفحاتها التطهير العرقي في مجازر صبرا وشاتيلا. ونرى اليوم في سوريا حركة محدودة الأثر لكنها تنمو أكثر فأكثر مفادها أن الحرب على سوريا هي امتداد للحروب التي جاءت من الجزيرة العربية وأطاحت بالأمبراطورية البيزنطية ودمّرت السريانية. ألم يؤكّد هذا الأمر حمد بن جاسم رئيس الوزراء القطري السابق الذي قال إنه وإخوانه في الجزيرة العربية أرادوا اصطياد سوريا لكنهم "تهاوشوا" عليها فضاعت منهم؟ ألم نرى على محطات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي فتاوى من الجزيرة تنتمي إلى القرون الوسطى ومتدينين يرتدون ملابس أبطال فيلم "الرسالة" ويستخدمون ديكوراته وهم يذبحون مواطنين سوريين ويفرضون مذهباً بعينه في مناطق سيطرتهم، ورفاقاً لهم يسبون الأزيديين والمسيحيين في العراق؟ هذا التقريب بين الماضي والحاضر بفارق أكثر من 1400 بدا مغرياً وبدا معه أن الخروج من السردية العربية الإسلامية لبلاد الشام بات أمراً ممكناً ومقبولاً بل حانت ساعته ، وبالتالي ما عادت ترتفع عقبات أمام أطروحة أرنست رينان العنصرية التي تقول إن مشكلة بلاد الشام تكمن في الإسلام وإن الخروج من هذه المشكلة شرطه الخروج منه.
لا قيمة دينية بل علمانية في نظر أصحاب هذا الفرضية، للقسم الأعظم من السوريين المسلمين ،الذين قاتلوا فلول بدو النفط والانتحاريين الوافدين من الخارج. لا قيمة بنظرهم للإسلام السوري عموماً والصوفي بخاصة والشيخ البوطي والمفتي حسون وغيرهم كثر بل القسم الأعظم من الشهداء السوريين الذين سقطوا دفاعاً عن سوريا
تأثير أرنست رينان لم ينحصر في بلاد الشام فقد انتشر أيضاً لدى النخب الحديثة في الجزيرة العربية مع الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 حيث قيل حينذاك إن البعث العراقي،على الأقل، لا يمثل العرب وإنما المُعَرّبين في بلاد الرافدين باعتبار أن العرب الفعليين هم الذين ما زالوا يقطنون في الجزيرة العربية منذ آلاف السنين. وكان بدو النفط قد استخدموا هذه الحجّة في مواجهة الناصرية التي رفعت شعار "نفط العرب للعرب" وليس لقبضة من الحكام الذين تحميهم الولايات المتحدة الأميركية. وكان من الطبيعي أن تعود المقولة نفسها للانتشار مجدّداً اليوم بعد أن لاحت بوادر هزيمة أميركية كبيرة في بلاد الشام وظهور بدو النفط عُراة من كل حماية جدية من الطرف الأميركي.
والواضح اليوم أن اجهزة الدعاية في الجزيرة تنشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الإجتماعي فرضية تقول إن انتصار سوريا على العدوان الدولي ليس انتصاراً عربياً وإنما هو أشوري وكلداني وسرياني وألا عرب في سوريا وإنما معربين وأن العربي الأصيل يقيم في مجتمع بدو النفط وليس في الأماكن "المُعَرَّبة" وذلك رغم أن سوريا لم تطرحْ يوماً شعار نفطُ العرب للعرب.
وإذا كانت إحدى القرى اللبنانية الفخورة بأرنست رينان قد أقامت تمثالاً له وكَرّمته قبل بضعة أعوام خلتْ، فلن أستغرب إن عمدت أجهزة الاستخبارات في الجزيرة العربية إلى الترويج لأفكاره بطريقة من الطرق لتأكيد مقولة أن بلاد الشام سريانية وأن العرب فيها هم من المستعمرين الذين يجب أن يعودوا من حيث أتوا .
لكن زعم بدو النفط أن عرب بلاد الشام معربون وأنهم هم أصل العرب، لا يستقيم أمام التسلسل التاريخي للعرب الذين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : العرب البائدة وهم عاد وثمود المنقرضين والعرب العاربة وهم أهل اليمن والعرب المستعربة وهم سكان شمال الجزيرة. وفي هذه الحال يكون عرب الشام الذين نزحوا من اليمن قبل الإسلام وبعد خراب سدّ مأرب ،هم الأكثر عروبة من غيرهم وبالتالي ليسوا مستعمربين ولا معربين ناهيك عن العرب المسيحيين الذين كانوا في بلاد الشام قبل انتشار الإسلام ولعبوا أدواراً بارزة في تاريخ هذه المنطقة.
لا تحتاج سوريا المنتصرة في الحرب على العدوان الإقليمي والدولي الأكبر في الألفية الثالثة، لا تحتاج إلى شهادة في العروبة من أحد وبخاصة من بدو النفط. ولا إلى تفسير سرياني لانتصارها ولا إلى استعادة أطروحات المستشرقين العنصرية، لقد انتصرت سوريا بمجتمعها التعدّدي وبحلفائها التعدّديين. انتصرت بوصفها دولة عربية مركزية سيكون لانتصارها ما بعده على كل صعيد.
الميادين
Views: 3