Smiley face Smiley face Smiley face

لا بالعلم ولا بالفهم.. بالقوة

 بقلم: رفعت إبراهيم البدوي

أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون يوم الخميس الماضي قبول لبنان الرسمي ممثلاً برئيس الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئيس حكومة تصريف الأعمال التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي توسطت فيه الولايات المتحدة مع إسرائيل والقبول به.

الرئيس عون قال في خطابه الأخير إن المحادثات وصلت إلى نهاية إيجابية، واصفاً الاتفاق أنه يمثل إنجازاً تاريخياً، استعاد فيه لبنان 860 كيلومتراً مربعاً من المنطقة البحرية المتنازع عليها، مؤكداً عدم التمهيد لأي نوع من أنواع التطبيع مع إسرائيل، وأضاف قائلاً: إن هذه الاتفاقية غير المباشرة تتجاوب مع المطالب اللبنانية وتحفظ حقوق لبنان كاملة.

من المعلوم أن اتفاق الترسيم لن يدخل حيز التنفيذ، إلا بعد إيداع لبنان والعدو الإسرائيلي النسخ الموقعة من قبلهما في الأمم المتحدة، ليصار بعدها إلى إصدار بيان رسمي بإعلان تنفيذ الاتفاق وبرعاية أممية.

وقبل إرسال النسخة اللبنانية الموقعة إلى الأمم المتحدة، انقسم لبنان بين مؤيد للاتفاق معتبرين إياه إنجازاً تاريخياً، وبين منتقد له نظراً لإغفال بعض الثغرات التي اعترت الاتفاق، أما البعض الآخر فقد وصف الاتفاق بالمجحف بحق لبنان، بحجة وجود مساومة على قسم من حقوق لبنان لمصلحة العدو الصهيوني.

لكن بعض المسؤولين الذين يشهد لهم بالموضوعية وبالوطنية، ولديهم باع طويل في محاكاة الواقع، اعتبروا اتفاق الترسيم بصيغته الراهنة جيد على قاعدة «ما كان بالإمكان أفضل مما كان»، آخذين بالاعتبار صعوبة النكد السياسي، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والمالية والأمنية المهترئة، جراء الحصار الأميركي الغربي، المسبب بحصول تضخم مالي هائل وانهيار قيمة العملة، وتعطل مرافق الدولة، المترافق مع عجز الطبقة السياسية عن الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، المنتهية ولايته بعد أسبوعين، وتبخر إمكانية تشكيل حكومة فاعلة للحلول مكان حكومة تصريف الأعمال الحالية.

أما وقد أعلن لبنان الرسمي القبول باتفاق ترسيم الحدود البحرية بصيغته الحالية، وبغض النظر عن الآراء المؤيدة أو المعترضة على الاتفاق، ومن خارج أي صندوق، وانطلاقاً من الحرص على حقوق لبنان والأجيال، فإننا سنضع جملة من الملاحظات التي يجب توضيحها للعموم كي لا تبقى مبهمة، ومصدراً للشك بحصول صفقة على حساب حقوق لبنان واللبنانيين، على قاعدة «ليطمئن قلبي»، وكي لا نصاب بلعنة الأجيال والتاريخ، وخصوصاً أن التجارب علمتنا الحذر من خبث هذا العدو الغادر عند أي مفترق وفي كل تفصيل، ففي الشكل:

– إن إبرام اتفاق الترسيم بمعزل عن الاحتكام للقوانين الدولية، لا يضمن تثبيت حقوق لبنان المشروعة كاملة وحمايتها من أي تنصّل أو نقض مستقبلي للاتفاق.

– إن إطار التفاهم أنجز بعد عشر سنوات لم يسجل لبنان خلالها أي تقدم ولو خطوة واحدة، ومع تعدد الموفدين الأميركيين كان التركيز الأميركي الضغط لقبول لبنان بحقوق منقوصة، بيد أن تأثر سوق الطاقة بالحرب الروسية الأوكرانية فتح شهية الأميركي والأوروبي والعدو الإسرائيلي، لاستخراج الغاز من البحر المتوسط وبيعه لأوروبا التي تعاني من نقص حاد جراء تعطل خطوط التغذية الروسية.

– العدو الإسرائيلي لم يعر مطالبة لبنان بحقوقه البحرية المشروعة أي اهتمام، بل أمعن باعتدائه وبسرقة حق لبنان عبر استحضار منصة شركة «Energean» لاستخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه وبيعه لأوروبا بأسعار مرتفعة، لكن الكلام الفصل كان للمقاومة اللبنانية التي فعّلت قوة الردع ضد العدو الصهيوني، عبر تحليق مسيراتها فوق حقل كاريش، مثبتة بذلك معادلة «لا غاز عندنا لا غاز عندكم»، وبظرف شهر واحد تغيرت كل الأمور ونستطيع القول إن العدو أذعن لتهديد المقاومة اللبنانية خوفاً من اندلاع حرب خاسرة للعدو سلفاً، الأمر الذي أجبره على الرضوخ لمطلب لبنان وباعتراف المحللين السياسيين وكبار قادة جيش العدو الإسرائيلي.

وفي نقد بناء وموضوعي لمضمون الاتفاق نذكر الأمور التالية:

– غابت عن بنود الاتفاق أي ضمانة لمنع تنصّل العدو الإسرائيلي مستقبلاً أو الانسحاب منه، وخصوصاً إذا تمكن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو من الفوز بالانتخابات الإسرائيلية القادمة، ولاسيما أن الأخير أعلن صراحة معارضته لهكذا اتفاق.

– في القسم الأول من الاتفاق يلحظ إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك على طول خط الحالي للعوامات البحرية، وعلى النحو الذي أرادته إسرائيل، وهذا يعني موافقة لبنانية صريحة على إبقاء هذه المنطقة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وإعطائه حرية الملاحة وتجول بوارجه العسكرية فيها متى شاء، أضف إلى ذلك أن الاتفاق أبقى نقطة رأس الناقورة ونقطة الـB1 والنفق السياحي تحت الاحتلال الإسرائيلي.

– ينص الاتفاق على أن تبدأ شركة «توتال» بحفر أول بئر في حقل قانا، إلا أن هذه الشركة، أي «توتال»، ممنوع عليها القيام بتطوير الحقل عينه للبدء باستخراج الغاز، إلا بعد إتمام اتفاق مالي بين الشركة وإسرائيل، ما يعني أن أي تطوير لاستخراج الغاز مستقبلاً من قانا، هو رهن بضمان مصالح إسرائيل المالية ومع «توتال» كشرط لتنفيذ الاتفاقية.

– إن اعتبار الخط 29 خطاً تفاوضياً، أفقد لبنان جزءاً كبيراً من حقه ونصيبه من حقل كاريش المتنازع عليه، وبدل مطالبة لبنان بتعويضات مالية عن حصته المشروعة من حقل كاريش، حسب اتفاقية نيو كامب 1923 ووفقاً لمعاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ألزمت إسرائيل شركة «توتال» دفع ما قيمته 17 بالمئة من منتوج حقل قانا اللبناني.

لا نريد أن نثقل على القارئ بالثغرات المتعددة، التي وردت في متن الاتفاق، وبعيداً عن أي نكد سياسي، وتجنباً لأي تفسير خاطئ قد يفسد ما أنجزه لبنان، رغم بعض الشوائب، ولكن حرصاً على حقوق الشعب وحقوق الأجيال اللبنانية، وخوفاً من لعنة التاريخ، أردنا تسجيل ملاحظاتنا وبشكل بناء.

معظم الفرقاء في لبنان أخذوا ينسبون الفضل بإنجاز الاتفاق لهم شخصياً، ولفهمهم ولعلمهم، ومنهم من ذهب إلى القول إنه تمكن من تحصيل حقوق لبنان البحرية كاملة، مع العلم بأن الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين اعترف بأن إسرائيل لم تحصل على كل ما تريده، وكذلك لبنان لم يحصل على كل ما أراده، واصفاً المفاوضات بأنها تجري هكذا بالعادة.

لكن وللأمانة وإنصافاً للحق نقول: لا بالفهم ولا بالعلم تمكن لبنان من انتزاع حقه في التنقيب عن الغاز في بحره، ودليل ذلك تجاربنا التي أثبتت أن هذا العدو لا يفهم، لا لغة الفهم ولا لغة العلم كما ادعى البعض، بل إن القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهما العدو الإسرائيلي، وإن الفضل بانتزاع حق لبنان بالتنقيب، عائد لقوة المقاومة اللبنانية، ولمسيرات حزب اللـه تحديداً، التي رسّخت معادلة «غازنا مقابل غازكم»، وبمعزل عن أي خطوط بحرية، الأمر الذي أجبر العدو الصهيوني على الإذعان والرضوخ لجزء كبير من مطالب لبنان المشروعة، وإلغاء الفيتو عن شركات التنقيب في حقول لبنان، وبالتالي قبول العدو باتفاق الترسيم.

نقول: الإفراط بالتفاؤل خطأ، واعتبار اتفاق الترسيم مكمن الفرج وفك الحصار الاقتصادي عن لبنان أيضاً خطأ، لأن ‏حقبات التاريخ علمتنا أن الثقة بوساطة أميركا، الحليف الأبدي لإسرائيل، خطأ فادح، ولأن تحديات ما بعد الاتفاق أكبر من تحدي تطبيق الاتفاق نفسه، وخاصة لجهة تأمين الشفافية في دفاتر الشروط لتراخيص شركات التنقيب، ولناحية تأمين مواكبة لبنانية لكميات الإنتاج، والتأكد من وضع العائدات المالية بصندوق سيادي، عائد للدولة اللبنانية، خارج أي إطار حزبي أو مناطقي.

الزعيم العربي جمال عبد الناصر قال: ‏لعلّ منطق هذا العصر هو منطق كل العصور أن الحق بغير القوة.. ضائع.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال: إن القوة وحدها هي التي ستحدد المستقبل الجيوسياسي للعالم.

Views: 1

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي