تضجّ منابر البرلمان بعد جلسات البحث بالقوانين الإصلاحية، وآخرها الكابيتال كونترول، بالكثير من التصريحات الإعلامية المتناقضة. آراء، وإن عكست النقاشات التي تدور في القاعات، تنطوي بأغلب الظن على الكثير من الغموض مما يُضمر للاقتصاد فعلياً. لتعود وتخرج في نهاية المطاف كقوانين مفصولة عن الواقع، عصية عن التنفيذ، لا تخدم إلا مصالح المنظومة السياسية والمصرفية التي أتقنت لعبة «قتل» الوقت.
أظهرت أحدث المؤشرات المالية للقطاع المصرفي في لبنان إنخفاضاً في الودائع بالعملات الاجنبية على أساس سنوي بمقدار 9 مليارات دولار. وقد تراجعت من حدود 106.05 مليارات دولار في أيلول 2021، إلى 97.05 ملياراً في أيلول 2022. إلا أن هذا التراجع الكبير لم ينتج عن عمليات سحب الودائع بحسب تعاميم مصرف لبنان، وأهمها التعاميم 151 و158 و161، كما يشتهي المصرفيون، إنما من تسديد قروض بواسطة شيكات لولارية»، بحسب الخبير المالي والمصرفي ميشال قزح. «حيث تظهر الأرقام أيضاً تراجعاً في قيمة القروض على القطاع الخاص في الفترة نفسها من 17.46 مليار دولار إلى 11.76 ملياراً. ما يعني أن السحوبات المباشرة من الحسابات لم تتجاوز في غضون عام 3.25 مليارات دولار».
الفجوة تتقلص!
بالنظر إلى هذا المسار، يُتوقع أن يصار خلال العام القادم إلى تسديد نصف قيمة الديون المتبقية على القطاع الخاص والمقدرة بـ 11.76 مليار دولار. فيما سيتحول نصفها الآخر إلى ديون معدومة تأخذ طريقها إلى المحاكم. وعليه «ستنخفض كتلة الودائع بالعملة الاجنبية (لولار) في غضون عام من 97 مليار دولار حالياً، إلى 85 ملياراً. وذلك بالاستناد إلى معدلات السحب التي تقدر بحدود 500 مليون دولار شهرياً»، بحسب قزح. «في المقابل فان كل المتبقي من العملات الاجنبية في النظام المصرفي يقدر اليوم بـ 12 مليار دولار في أحسن الاحوال. 2 مليار دولار أموالاً طازجة موجودة في المصارف المراسلة، و10 مليارات توظيفات الزامية في مصرف لبنان. واذا جمعنا أصول المصارف وقيمة الديون الأجنبية على المصارف، فان الفجوة ستبقى كبيرة جداً بين الموجودات والمطلوبات. وهي ستحتم اقتطاع ما بين 50 إلى 60 في المئة من الودائع. «الأمر الذي سيحول دون إمكانية إتمام عملية التوزيع العادل للخسائر، كائنة ما كانت الخطة التي ستعتمد»، برأي قزح. «خصوصاً أن أغلبية الاموال الحقيقية التي كانت في النظام المصرفي قد جرى تهريبها إلى الخارج، ولا توجد دولة قادرة مع قضاء وأمن مستقلين لارجاع الودائع المهربة أو غير الشرعية لزيادة فرص التعويض على المودعين».
الأرقام لا تؤخذ بعين الاعتبار
الدلالات البالغة الأهمية لهذه الارقام على ما يُحضّر من قوانين ورزم إصلاحية، وفي مقدّمها: الكابيتال كونترول، إعادة هيكلة القطاع المصرفي وسياسات الاصلاح المالي والاقتصادي، لا تؤخذ بعين الإعتبار. فالخلاف مثلاً على قانون الكابيتال كونترول يحتدم بين الكتل النيابية المختلفة، وحتى داخل الكتلة الواحدة. ذلك مع العلم أنه إذا لم يُصر في هذه المرحلة تحديداً إلى قراءة المؤشرات الرقمية بكثير من العناية، فان كل الخطط التي توضع والقوانين التي تقر ستكون لها إنعكاسات سلبية، على إمكانية تعافي الاقتصاد أولاً وعلى المودعين ثانياً، وعلى إمكانية نشوء نظام مصرفي سليم، ثالثاً. فـ»اقرار قانون الكابيتال كونترول منفرداً كما يجري الاعداد له، من دون رزمة القوانين المتعلقة بإعادة إنتظام الوضع المالي، وإعادة هيكلة المصارف، اللذين يناقشان في اللجان النيابية بصورة رسمية، يشرع عجز المصارف على إعادة الودائع»، يقول رئيس مجلس إدارة FFA Private Bank، جان رياشي. «والمبالغ التي سيتم إرجاعها ستكون ضمن حدود 1000 دولار شهرياً، ستدفع على الارجح بالليرة على أسعار صرف غير حقيقية محددة من هيئة معينة». وبرأيه فان «تذويب» الودائع (إرجاعها)، بهذه الطريقة سيتطلب أقله 30 عاماً، وبالتالي لن يكون قانون الكابيتال كونترول حلاً، لا للمودعين ولا لتحقيق النمو الاقتصادي».
الكل خاسر
على الرغم من أن قانون «الكابيتال كونترول» الذي يجري إعداده، لن يوضع ليجري رفعه بعد مدة زمنية حدها الاقصى سنة كما يفترض، فـ»هو ليس بقانون لضبط السحوبات وتنظيمها بالمعنى العلمي للقانون»، برأي رياشي، «إنما فصل بين الودائع القديمة أي التي ما قبل تشرين 2019 التي لم يعد لها وجود إلا كأرقام على أجهزة الحاسوب، وتلك المكونة حديثاً بعد 2019. وعليه فهو «قانون ليلرة أكثر من منه قانون كابيتال كونترول». ومع هذا يواجه برفض ومقاومة من بعض المصرفيين. و»هو أمر مستغرب»، بحسب رياشي. كما يواجه برفض السياسيين ثانياً والمودعين ثالثاً. مع العلم أن الكل يخسر اليوم، وسيخسر حتماً في المستقبل. لذلك يجب البحث عن الصيغة التي يخسر فيها الكل أقل قدر ممكن ليربح الاقتصاد. وهذا الكلام لا يلاقي قبول أحد مع العلم أنه يحقق مصلحة صغار المودعين الذين تقل حساباتهم عن 100 ألف دولار. ويحد من خسارة الشريحة التي تتخطى قيمة ودائعها 100 ألف دولار. لأن البقاء على هذا النمط من التعاطي، سيخسرها كل أرصدتها ولن يعود منها سوى جزء بسيط جداً وعلى فترة زمنية طويلة. لا سيما وأن القدرة على التعويض تقل عاماً بعد آخر نتيجة استنزاف العملات الاجنبية.
إلى جانب تفخيخ القوانين الاصلاحية وتمييعها، يتعمّد المسؤولون ضرب القاعدة الاقتصادية التي تقول «الوقت هو المال»، بعرض الحائط. فالعجز عن اتخاذ قرار واحد سليم خلال السنوات الثلاث المنصرمة خسّر الاقتصاد ما يقارب 41 مليار دولار من الناتج المحلي، وجعل قيمة الدولار البنكي الواحد تساوي 20 سنتاً. ومع هذا تستمر المنظومة بانكار الواقع رافضة الاعتراف بحجم الخسائر للانتقال إلى معالجتها. وبرأي رياشي، حان الوقت للجلوس لايجاد الحل الاقل ضرراً لانه لا يوجد حل سحري يعوض كل الاضرار. وعلى هذا الحل أن يميز بين صغار المودعين وكبارهم. وذلك بعد تحديد الودائع غير المشروعة، وليس المستحقة، وشطبها. الامر الذي يزيد من إمكانية التعويض على أكبر قدر ممكن من المودعين.
Views: 6