مِصر تنتصر لشُهدائها وتُعيد حصر وتوثيق تضحياتهم وأعدادهم.. ولكن هذا وحده لا يكفي.. لماذا نُعيد الآن تسليط الأضواء على الشّهداء المِصريين الذين حرقهم الصّهاينة أحياءً وأَعدموا أشقّاءهم دهسًا بالدبّابات بعد أسْرِهِم؟ وما هي الرّسالة التي نُريد توجيهها إلى الأجيال العربيّة والمِصريّة الجديدة وفي هذا التّوقيت؟
عبد الباري عطوان
توقّفت مُطَوّلًا عند القرار الذي أصدره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل يومين بإعداد الجهات المسؤولة حصرًا دقيقًا لكُلّ الشّهداء المِصريين في الحُروب السّابقة مُنذ بداية عام 1948 لتكريمهم وضمّهم إلى قوائم المُستفيدين من مزايا خدمات أُسَر الشّهداء، وجاءَ هذا القرار بعد اجتماع الرئيس المِصري مع اللواء السيّد غالي رئيس مجلس إدارة صندوق تكريم الشّهداء، واللواء أحمد الأشعل المدير التنفيذي للصّندوق.
هذه خطوةٌ مُهمّةٌ من قبل السّلطات المِصريّة تعكس حِرصًا ووفاءً لهؤلاء الشّهداء الذين ضحّوا بأرواحهم ودِمائهم من أجل كرامة مِصر والأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، ودِفاعًا عن العدالة وحِماية الأمن القوميّ المِصريّ، ورفْع الظُّلم عن الشّعب العَربي الفِلسطيني، واستِعادة حُقوقه المشروعة.
هؤلاء الشّهداء والذين تصل أعدادهم إلى مِئات الآلاف استشهدوا، وبعضهم جرى حرقهم أحياء، أو جرى إعدامهم بعد وقوعهم في الأسْر برصاصِ الجُنود الإسرائيليين، ويجب التّأكيد على هذه الحقيقة دائمًا، ولا يكفي حصرهم، بل يجب الثّأر لهُم، ومُطاردة العدوّ الإسرائيلي وجِنرالاته في المحاكم الدوليّة كمُجرمي حرب، لإدانتهم، وفضْحهم أمام الرّأي العالم العالمي، والمُطالبة باستِعادة رُفاتهم، ودفْع كُل التّعويضات اللّازمة لأُسرهم، وإعادة دفْنهم في مقابر ومراسم تليق بهم وتضحياتهم.
حتّى لا يتّهمنا البعض بالمُبالغة، وحِرصًا منّا على توعية الأجيال الجديدة بفُصولٍ مُشرقةٍ من تاريخ آبائهم وأجدادهم، واطّلاعهم على حقائق المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة في حقّهم، بالوثائق الدّامغة، لا بُدّ من تسليط الأضواء على بعض هذه المجازر:
-
الأولى: إحراق ما يَقرُب من مئة جندي مِصري أحياء في مجزرة اللطرون قُرب القُدس المُحتلّة، كانوا في كتيبتين من القوّات الخاصّة، أرسلتهم الحُكومة المِصريّة قبل حرب عام 1967 للقِتال إلى جانب القوّات الأردنيّة تطبيقًا للدّفاع الأردني المِصري المُشتَرك، والسّيطرة على مطارات وقواعد إسرائيليّة في اللّد والرّملة والمناطق المُحتلّة عام 1948، وكشف المُؤرّخ الإسرائيلي يوسي ميلمان عن هذه المجزرة، وقال إنّ 20 جُنديًّا جرى إعدامهم حرقًا، وتولّت جرّافة تابعة للجيش الإسرائيلي بدَفنِ جثامينهم في مقبرةٍ جماعيّة، لكنّ صحيفة “يديعوت أحرونوت” قالت إن عدد القتلى (الشّهداء) المِصريين يتراوح بين 80 و100 شهيد وأكّدت الصّحيفة نَقْلًا عن شُهودٍ عيان أن المقبرة الجماعيّة تضم رُفاةَ هؤلاء الجُنود وجرى التّكتّم على وجودهم لأكثر من 55 عامًا، وإقامة مقبرة فوقها، في مُخالفةٍ واضحةٍ لقوانين الحرب.
-
الثانية: تأكيد المُؤرّخ والمُدرّس في جامعة بار إيلان في تل أبيب البروفيسور إرييه يتسحاق أنّ القوّات الإسرائيليّة أعدمت ما يَقرُب من 900 جُندي مِصري بعد استِسلامهم خلال أسْرهم في مِنطقة العريش في حرب حزيران (يونيو) عام 1967، وكان من بين هُؤلاء 300 جُندي فِلسطيني من قوّات جيش التّحرير الفِلسطيني، وفي أيلول (سبتمبر) عام 1995 نقلت صحيفة “الأهرام” عن بعثةٍ استكشافيّةٍ أرسلتها إلى صحراء سيناء، أكّدت العُثور على مقبرتين جماعيّتين يروي شهود عيان أنّهما تضمّان رُفات أسرى حرب مِصريين عُزّل جرى قتلهم برَصاصِ الجُنود الإسرائيليين بعد استِسلامهم في حرب عام 1967 في قاعدةٍ جويّةٍ ووادٍ صحراويٍّ في جنوب سيناء، وتقول روايات شُهود العيان إنّ جُنود الاحتِلال كانوا يأمرون الأسرى بحَفْرِ قُبورهم بأيديهم والانبِطاح على الأرض ثُمّ تسير الدبّابات فوقهم.
نَسْرُد هذه الحقائق، وفي هذا التّوقيت، لكيّ ننقل رِسالةً إلى الأجيال الجديدة في مِصر والوطن العربي تؤكّد أن من ارتكب هذه المجازر هُم الذين يَفتَح لهُم بعض العرب هذه الأيّام أراضيهم ويستقبلونهم كأصدقاء، وحُلفاء، يفرشون لهم السجّاد الأحمر، ويعتبرون من يُقاوم احتِلالهم إرهابيًّا، والشّق الثّاني من هذه الرّسالة لتذكير هذه الأجيال بأنّ مِصر كانت من أكثر الدول العربيّة التي قدّمت شُهداء نُصرةً للقضايا العربيّة وعلى رأسِها قضيّة فِلسطين، وخاضت أربع حُروب لنُصرتها، وإذا كان شعبها يُعاني من الجُوع وضنْك العيش فإنّ هذه الحُروب المُشرّفة أبرز أسبابها.
خِتامًا نقول، ونُكرّر، أن حصر أسماء هؤلاء الشّهداء من قِبَل السّلطات المِصريّة وفاءً لشجاعتهم وتضحياتهم أمر يستحقّ التّقدير والتّنويه والتّكريم، ولكنّنا نأمل أن تترافق هذه الخطوة مع حملة عربيّة ودوليّة تشرح بُطولات هؤلاء في ميادين القِتال، وحتميّة الثّأر لهُم ولدمائهم، والتّأكيد عمليًّا على ضرورة عودة مِصر إلى مكانتها القياديّة والرياديّة وقِيادة الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة لتبوء مكانتيهما وسَط الأُمم.
كلمةٌ أخيرة نقولها للقِيادة المصريّة في هذا المِلَف، وهي ضرورة أن تشمل عمليّات التّوثيق هذه 300 شهيد فِلسطيني من أبناء قِطاع غزّة كانوا يُقاتلون تحت العلم المِصري في حرب عام 1967، وامتَزجَت دِماؤهم بدِماءِ أشقّائهم المِصريين على أرض سيناء الطّاهرة.
Views: 5