رامي الشاعر
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه لا زال يعتبر الشعب الأوكراني شعباً شقيقاً، وأكد على أن روسيا ليس لديها ما يمكن أن يؤخذ عليها، متابعا: “أقول ذلك بكامل المسؤولية”.
جاء ذلك في الاجتماع الموسع لكبار القادة العسكريين، بهدف تحديد مهام الجيش الروسي في العام المقبل، حيث قال الرئيس الروسي إنه حين مغادرة أوكرانيا الاتحاد السوفيتي كتب في إعلان الاستقلال أنها “دولة محايدة”، وتابع: “اعتقد أن قادة روسيا آنذاك وضعوا ذلك في الاعتبار أيضا. وأنا متأكد أن ذلك كان هو الحال بالضبط، ويمكن تفهم القيادة في ذلك الوقت، في ظروف ربما لم يروا أي تهديدات. شعب شقيق، دولة محايدة، ثقافة واحدة، قيم روحية وأخلاقية مشتركة، تاريخ مشترك. لم تكن هناك تهديدات. ولكن، لا! عمل العدو بإصرار شديد لهدم كل ذلك، وعلينا أن نشيد بفاعلية ذلك”.
ثم أشار بوتين إلى أن أي إجراءات من جانب روسيا لبناء علاقات جيدة مع أوكرانيا لم تحقق الهدف المنشود، بما في ذلك القروض، والمعونات، وأسعار الغاز الزهيدة، التي لم يكن لها مثيل في العالم، لا شيء. تحولت أوكرانيا إلى دولة تمثيل تهديدا للأمن القومي الروسي.
بل إن كل المحاولات والمساعي الدبلوماسية التي قامت بها روسيا تجاه ما يسمى بـ “العالم المتحضر” لم تحصد أي نتائج، حيث لا تريد الولايات المتحدة الأمريكية تغيير سياساتها لا مع روسيا، ولا في الشرق الأوسط أو آسيا أو أوروبا ولا في أمريكا اللاتينية ولا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بل وتسعى الآن للقيام بدور مؤثر في إفريقيا، إلى جانب محاولاتها من خلال التحالف الجديد “أيكوس” إلى السيطرة على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وسط توترات واضحة ما بين الكوريتين، وما بين الصين وتايوان، وما بين الهند والصين.
من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اختارت نهج التصعيد في وجه القوة الدولية الصاعدة لتغيير الأجواء الدولية نحو أجواء عالم متعدد القطبية، والتي يبدي كثير من بلدان الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تعاطفهم معها، وروسيا، فيما أظن، لن تسمح بذلك.
وقد استهل بوتين حديثه بأن الغرب يسعى لتدمير وتفتيت روسيا منذ قرون، وليس هذا بشيء جديد، إلا أن الجديد هو جعل أوكرانيا، والشعب الأوكراني كبش الفداء، والضحية من أجل هذه المواجهة، والتي هي عمليا أوسع بكثير من مجرد المواجهة بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني، وإنما هي مواجهة بين روسيا وبين قوات الغرب الجماعي على حد تعبير وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يوم أمس في اجتماع قيادات الجيش بحضور بوتين.
يحدث ذلك بالتزامن مع زيارة طفل الولايات المتحدة الأمريكية المدلل فلاديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض يوم الأربعاء، وإلقائه ما أطلقوا عليه “خطابا تاريخيا” أمام الجلسة المشتركة للكونغرس الأمريكي، حيث بدا زيلينسكي كطفل يتيم في انتظار “هدية عيد الميلاد” من الجد بايدن.
كما يأتي ذلك بعد أيام من مطالبة القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني واشنطن، في حوار له مع The Economist، بمعدات عسكرية وصفها تحديداً: 300 دبابة و600-700 مدرعة مقاتلة و500 مدفع هاوتزر، ناهيك عن منظومات “باتريوت”، وربما طائرات “إف-16”. بمعنى أن ما يحتاجه زالوجني هو “جيش جديد”، وليس مجرد مساعدات عسكرية. فإذا ما وضعنا ذلك إلى جانب شعارات “أوكرانيا تنتصر” و”أوكرانيا تستنزف القوات الروسية”، يتضح لنا مدى كذب الدعاية الغربية بشأن الوضع على الأرض، ونميل قطعا إلى تبني وجهة النظر الواقعية التي تقول بأن الانسحابات التي قامت بها القوات المسلحة الروسية كانت بالفعل إعادة تموضع تكتيكي، وأنها بالفعل حافظت على عتادها وأفرادها، مقابل جيش من مرتزقة العناصر القومية الأوكرانية المتطرفة، الذين يحاربون بأموال ومعدات وأسلحة الغرب من أجل الانقضاض على الأشقاء والأخوة في الدم والعرق والتاريخ والثقافة، وبجانبهم زملاء من التنظيمات اليمينية والمتطرفين في بولندا وبريطانيا.
إن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يوافق عليها بحكم الواقع حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي، هي تزويد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية وغير العسكرية الكافية فقط للدفاع والبقاء على قيد الحياة، وليس بالضرورة بما يكفي للعودة لحدود عام 1991 كما يهذي زيلينسكي وفريقه، أو حتى للعودة إلى حدود 24 فبراير 2022، في حين أن النقل المحتمل لمنظومات “باتريوت” الأمريكية إلى أوكرانيا، وعلى الرغم من كونه إشارة سياسية قوية، إلا أن تأثيره التكتيكي على أرض المعركة سيكون ضئيلا للغاية، في الوقت الذي يحاول فيه زيلينسكي وقائده العام زالوجني إقناع أسيادهم الأمريكيين بعكس ذلك، في محاولة لاستخدام “المهارات التمثيلية” للممثل الكوميدي السابق لإقناع الكونغرس الأمريكي بجدوى المساعدات الأمريكية، واستعداد المزيد من الشعب الأوكراني، بقيادة زيلينسكي، للتضحية حتى آخر مواطن أوكراني، من أجل المصالح الأمريكية والغربية، ومن أجل استنزاف روسيا أكثر وأكثر.
لكن الكونغرس الأمريكي، وما أن انتهى ذلك “الخطاب التاريخي” للممثل الكوميدي الذي يحاول اصطناع “التراجيدية” في تمثيله، علق المضي قدما في حزمة المساعدات بقيمة 45 مليار دولار لكييف، ولسبب بسيط، أن الديمقراطيين رفضوا اقتراحا للسيناتور الجمهوري مايك لي بتعديل يتطلب تمويلا إضافيا للامتثال لقيود فيروس كورونا عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية.
وهذا، وفقا لما نشرته “بلومبرغ”، يهدد بتأجيل قرارات الإنفاق الرئيسية إلى العام المقبل، وهو ما يمنح الجمهوريين المحافظين فرصة لخفض الإنفاق، وبالتالي ربما خفض المساعدات لأوكرانيا، حيث يطالب الجمهوريون بالتوقف عن سياسة “الشيكات على بياض”، واستخدام وسائل تتبع المساعدات لأوكرانيا، والتحقق من أوجه استخدامها. خاصة بعد أن ظهرت أدلة ووقائع وأسلحة أمريكية، من تلك التي ساعدت بها الولايات المتحدة أوكرانيا، في أماكن أخرى من العالم، وتحديدا في الشرق الأوسط.
إن ما يسعى إليه الغرب الآن بقيادة الولايات المتحدة، فيما أراه، هو أولاً: تسريع إرسال المزيد من الأسلحة الهجومية، ومنظومات الدفاع الجوي إلى أوكرانيا، وهو ما يعولون أنه يرفع من فاتورة التكاليف على روسيا، ويساعد في صد هجوم روسي يبدو مؤكدا في الشتاء أو الربيع المقبل، وثانياً: ضمان الدعم طويل الأجل في شكل ترتيب شبيه بالعلاقات الغربية مع تايوان، حتى تتمكن أوكرانيا من الدفاع عن نفسها، ونوع من إعادة الإعمار على غرار خطة “مارشال” لإعادة بناء أوكرانيا.
فأما على مستوى منظومات الدفاع الجوي “باتريوت”، فأنا أعتقد أن تكامل تلك المنظومات مع منظومات الدفاع الجوي الأوروبية والسوفيتية الموجودة حاليا في الخدمة لدى الجيش الأوكراني هو أمر مشكوك فيه، ناهيك عن التدريب الذي يجب أن يخضع له المشغلون لهذه المنظومات، وهي عوامل ترجح أن تصبح تلك المنظومات مصدرا للتهديدات أكثر من كونها وسيلة لمجابهتها.
وأما على مستوى “مارشال” فإن أوكرانيا تحتاج إلى 5 مليار دولار شهريا للوفاء باحتياجاتها، بمعنى أنها أصبحت بالفعل دولة فاشلة، وعاجزة فعلياً عن القيام بوظائف الدولة، وقد ارتفع ذلك المبلغ الآن إلى 7 مليارات، بعد انهيار منظومة الطاقة والمياه والتدفئة، واضطلاع أوروبا بعبء إعادة الإعمار، في ظل التضخم الذي تعاني منه أوروبا، وارتفاع أسعار الغاز، وهروب الصناعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يجعل ذلك كله خطة الغرب لـ “استعادة ما تبقى من أوكرانيا” يهدد أوروبا نفسها، أكثر من قدرته الحقيقية والواقعية لمساعدة أوكرانيا.
إن روسيا، وفقا لما أعلنه القائد الأعلى للقوات المسلحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم أمس، مصممة على تنفيذ كامل مهام عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وعازمة على إنقاذ الشعب الأوكراني من براثن هذا النظام المجرم الإرهابي، الذي يضحي بأبناء شعبه من أجل حفنة من الدولارات، اعتمادا على مهاراته “التمثيلية”، وعلى شعارات فريقه ومهاراتهم الإعلامية.
ومن خلال اتصالاتها الدبلوماسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية مع بلدان البريكس، وغيرها من التحالفات الأخرى، فقد بدأ التحضير الجدي لمواجهة الغرب، حتى عسكريا، وهو ما يعني أنه لم يعد هناك فرصة لأي مساومة أو تراجع عن السير على درب التحول إلى العالم الجديد، وجبهة المواجهة التي تتكون من روسيا وبيلاروس ضد “الناتو”، وهي الجبهة التي يتم تزويدها الآن بكل ما تحتاج إليه لتوسيعها نحو مناطق أخرى في آسيا ولن تنتهي هذه المواجهة إلا بانتهاء وجود حلف “الناتو”، وإخلاء القواعد الأمريكية أينما وجدت، وعودتها إلى قواعدها في الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك القواعد المتواجدة في الشرق الأوسط.
دائما ما يقع نصيب روسيا أن تكون الدولة التي تغير تاريخ العالم، وكثيرا ما يحدث ذلك في بداية القرن الجديد، ويبدو أن القرن الحادي والعشرين ليس استثناء.
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
Views: 6