وإشعال فتيل الفوضى التّدميريّة فيه؟ وهل سيفي بتهديداته هذه المرّة بقصف “الكيان” وحُلفائه في لبنان؟ ولماذا كان غاضبًا ومُحبَطًا واختار بدء التّصدير من حقل كاريش لإلقاءِ هذا الخِطاب؟ إليْكُم السّيناريو الأكثر احتِمالًا
عبد الباري عطوان
جاءَ خطاب السيّد حسن نصر الله أمين عام حزب الله الذي ألقاهُ عصر اليوم وتزامن مع بدء دولة الاحتِلال الإسرائيلي في استِخراج الغاز والنفط من حقل كاريش اللّبناني الفِلسطيني حافِلًا بالتّهديدات في أكثرِ من اتّجاه، ومُتنبّئًا بحُدوثِ انهيارٍ وفوضى في لبنان، ربّما تقود إلى حربٍ إقليميّةٍ مُوسّعةٍ تكون “إسرائيل” أكبر أهدافها.
السيّد نصر الله هدّد في خِطاباتٍ مُماثلةٍ بالرّد على أمريكا بضرب دولة الاحتِلال “ربيبتها” في المِنطقة، ولكن يبدو أنّ تهديداته هذه المرّة ربّما تكون مُختلفةً، لأنّ الرّهان على اتّفاق ترسيم الحُدود البحريّة في إخراجِ لبنان من أزماته، وتدفّق الاستِثمارات لإحداثِ انفراجٍ في الأزمة الاقتصاديّة تحديدًا، وتخفيف مُعاناة ملايين اللّبنانيين فد فشل فَشَلًا ذريعًا حيث جاءت “المُكافأة” على هذا التّرسيم الذي تضمّن تنازلات كبيرة، مسمومة، ومُهينة، عُنوانها الأبرز المزيد من الضّغوط التجويعيّة الأمريكيّة على لبنان وشعبه.
توقيت إلقاء هذا الخِطاب، والرّسائل التي حملها، جاء دقيقًا، ولا نستبعد أن السيّد نصر الله اختارهُ بعنايةٍ، وعلى عجل، فوجْهُ الرّجل كان مُكْفَهِرًّا، وملامح الغضب والإحباط، باديةٌ عليه، ويُمكن رصدها بسُهولةٍ وبِما يعكس تحوّلًا في لُغة المُخاطبة، من الإطالة والشّرح، إلى التّهديد المُباشر، واللّهجة التصعيديّة التعبويّة العفويّة بعيدًا عن المجالات، والحسابات اللبنانيّة الداخليّة السياسيّة، والطائفيّة المُعقّدة مثلما كان عليه الحال في مُعظم خِطاباته الأخيرة.
فعندما يقول السيّد نصر الله أن الأمريكان وحُلفاءهم في لبنان يُخطّطون للانهِيار والفوضى في البِلاد، وأنهم سيخسرون لأنّ الرّهان على أن “تدفع الآلام والمُعاناة غير المسبوقة البيئة الحاضنة إلى التخلّي عن الدّفاع عن قيمها ودِفاعها، سِيادتها، وكرامَتها وأمْنها ومالها رهانٌ خاسِر”.
النّقطة اللّافتة الأبرز في رأينا أن السيّد نصر الله يتوقّع حُدوث وشيك للانهِيار الكامِل والفوضى، وأن حركة المُقاومة اللبنانيّة وحُلفاءها خارج لبنان، مُسْتَعِدّةٌ لكُلّ السّيناريوهات العسكريّة المُحتملة، ولن تقف في موقف المُتفرّج، وستضرب دولة الاحتِلال “ربيبة” أمريكا، مُذَكّرًا في الوقتِ نفسه بإرسالِ ثلاثِ مُسيّراتٍ إلى حقل كاريش، وهي الخطوة التي دفعت المبعوث الأمريكي إلى الهَرولة والتّعجيل بإنجازِ اتّفاق ترسيم الحُدود.
نختلف مُسْبَقًا مع الذين سيُشَكّكون بهذا الخِطاب والتّهديدات التي وردت فيه، وسيُكرّرون خِطابهم التّقليدي بالقول “نسمع جعجعةً ولا نرى طحنًا”، ولن يختلف هذا الخِطاب عن سابقاته، فعندما يصل سِعر اللّيرة اللبنانيّة إلى 75 ألفًا مُقابل الدّولار، وترتفع أسعار المواد الغذائيّة والضّروريّة إلى مُعدّلاتٍ قياسيّةٍ تتجاوز القُدرات الشّرائيّة للمُواطن ليس الفقير فقط، وإنّما من الطّبقة الوُسطَى، ولا يَجِد المُواطن رغيف الخُبز لأطفاله، ولا الكهرباء والدّواء والأمن، فإنّ الانفِجار الأكبر هو الخِيار الوحيد.
السيّد نصر الله وضع نفسه أمام تَحَدٍّ ربّما يكون الأخطر مُنذ تولّيه قِيادة المُقاومة، لأنّه يَصعُب التّراجع عنه، بعد أن حدّد بدقّة الدّور الأمريكي الإسرائيلي في تفجير الفوضى في لبنان للقضاء على المُقاومة وسِلاحها وأنصارها، وبعد أن فشلت تنازلات ترسيم الحُدود في تجاوز هذه الفوضى، ووضْعِ حَدٍّ للتّسويف في مسألةِ استِخراج الغاز والنّفط اللّبنانيين.
طرح السيّد نصر الله مثلًا بالرّفض الإيراني لعشَرات الرّسائل الأمريكيّة بالجُلوس وجهًا لوجه على مائدة المُفاوضات المُباشرة بعيدًا عن الأوروبيين والوُسطاء العرب، لبحث الخِلافات بشأن الاتّفاق النووي وغيره، لم يكن من قبيل الصّدفة، لأنّ هذا الرّفض الإيراني جاء نتيجة الإدراك بأنّ هذا الخِيار (وجهًا لوجه) يعني المزيد من الضّغوط المُباشرة، ولأنّه لا يُوجد أيّ حَدٍّ للطّلبات الأمريكيّة، فعِندما تبدأ لن تنتهي حتّى تجريد الطّرف المُقابل من كُلّ دِفاعاته ومطالبه وقيمه.
***
صحيح أن السيّد نصر الله وحُلفاءه الإيرانيّون الذين فسّروا له ولنا عبره، لأوّل مرّة أسباب رفضهم للمُفاوضات المُباشرة، لم يضربوا مثلًا بعِراق صدام حسين وتجربته المريرة في المُفاوضات مع الأمريكان وقدّم فيها كُل التّنازلات، بِما في ذلك تدمير أسلحة الدّمار الشّامل، وجاءت المُكافأة تشديد الحِصار، ومن ثمّ الغزو والاحتِلال واستِشهاد مِليونيّ مُواطن عِراقي نسبة كبيرة منهم من الأطفال، أو بالخديعة الكُبرى التي وقَعَ فيها الفِلسطينيّون بتوقيع اتّفاق أوسلو بضَماناتٍ أمريكيّة، وانخَرطوا في مُفاوضاتٍ مُباشرةٍ استغرقت 30 عامًا دون أن يحصلوا إلا على المزيد من المجازر.
هل سيأخُذ الإسرائيليّون والأمريكان ما ورد في هذا الخِطاب على محمل الجد، ويتخلّون وحُلفاؤهم عن دفع لبنان إلى الفوضى التدميريّة الوجوديّة، أمْ سيُغلقون آذانهم ويُديرون ظهرهم لما ورد فيه من تهديداتٍ، ويمضون قُدُمًا في مُخطّطاتهم؟
الرّد على هذا الموقف الأمريكي الإسرائيلي بالتّجاهل، جاء في خاتمةِ خِطابِ السيّد “القصير” و”الغاضب”، وفي الفقرة التي قال فيها “من يُريد أن يدفع لبنان إلى الفوضى والانهِيار عليه أن يتوقّع كُل ما لا يَخطُر على باله”.
الزّلزال الأكبر، والأخطر، قادمٌ وربّما سيأتي الصّاعق المُفجّر له من جنوب لبنان، اللهمّ إلا إذا حدثت “مُعجزة” ونحن لسنا في زَمنِ المُعجزات.. والأيّام بيننا
Views: 4