كمال خلف
اننا امام مشهد متحول، التغيرات تجري صورة متسارعة، نتابع الاحداث اليومية الساخنة، لكن السؤال ما هولا مغزاها وأين مآلاتها ؟ ولماذا تزدحم بالمنطقة بتلك التحولات الصارخة. علينا ان نجمع على حقيقة ثابتة واضحة وهي اننا نغادر حقبة، ليست هي تلك السنوات العشر القاحلة الدامية التي كنا نعتصر فيها الما على واقعنا الممزق، انما حقبة ابعد منها بكثير تتجه نحول الافول.. نعيش مخاض القرن نحو عصر جديد معالمه لم تكتمل بعد، لكن بدأنا نتلمس تلك الملامح ونعيشها. المحور الأهم فيها هو فشل الاستراتيجية الامريكية ومشاريعها في منطقتنا بشكل حاسم. عدة مشاريع استراتيجية شهدناها سقطت السقوط الحر رغم خطورتها. من ابرزها مشروع صفقة القرن، وهو محاولة لقلب المشهد العربي وتغير وجهة المنطقة باء بالفشل الحاسم، خطة الاتفاقات الابراهيمية وتوسيعها وعقد صلح عربي إسرائيلي بعيدا عن الحق الفلسطيني تعثرت وفرملة الدول العربية وتفلتت من المشروع، عقد تحالف عربي إسرائيلي ” الناتو العربي ” كان من المشروعات الفاشلة المنهارة، عزل ايران واخضاعها وحصارها واجبارها على العودة للاتفاق النووي بشروط الولايات المتحدة لم ينجح، سياسية العقوبات ضد ايران فشلت كذلك، الأهم بخصوص ايران جرى قبل اشهر، كان محاولة اشعال الداخل الإيراني واحداث فوضى دموية عبر تسليح جماعات محلية وإدخال عناصر اجنبية عبر الحدود مترافقة بضغط اعلامي وسياسي يفضي الى شل ايران واضعافها واحداث تصدعات داخل بنية النظام، ولكن رغم الجهد الأقصى الذي بذلته الولايات المتحدة بمساعدة بريطانيا فشلت المحاولة. واذا كانت فعلا الدول العربية اليوم وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومصر يقومان بالتواصل وإعادة وصل العلاقة مع سورية بعيدا عن رغبة واشنطن، فهذا يعني ان عقوبات ” قيصر” ومحاولة اخضاع سورية تتجه نحو الفشل. اما شمال شرق سورية فهو المشهد المقبل على الاحداث الساخنة، مع التصعيد ضد القوات الامريكية هناك واضطرار واشنطن لنقل حاملة طائراتها الى المتوسط لحماية قواتها في سورية، نكون امام البداية لمشهد قد يشبه مشهد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان مع ما يحمله من دلالات عميقة في تقييم واقع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط عموما.
ad
اما في لبنان فكانت المحاولة الامريكية في 2019 تهدف لقلب الطاولة على حزب الله والمقاومة، وتجويع لبنان لاحداث ثورة جياع ضد المقاومة وتحميلها المسؤولية وطرح تسوية قائمة على السلاح مقابل الخبز “. واعتمدت الخطة على أحزاب محلية ومنظمات مدنية ممولة من السفارة الامريكية. لكن المخطط لم يحقق أي اهداف موضوعة.
ما يجري في فلسطين المحتلة هذه الأيام لا يشبه جولات النار التي عشناها طوال السنوات الماضية والتي تنتهي بشهداء ودمار وفي نهاية المطاف ينجح الوسطاء في وقف النار وعقد هدنة. من يجري تقييما للاحداث اليوم في فلسطين على ما كان يجري سابقا يقع في خطأ كبير. اليوم ثمة جديد عميق وغير مسبوق. صحيح اننا كنا نسمع مصطلح وحدة الساحات وتكامل الجبهات في السنوات الماضية، لكن اليوم اصبح حقيقة عملية ومعادلة قائمة بالنار لا تحتمل التأويل. التصعيد الإسرائيلي في الأقصى أدى الى التسخين على الجبهات من غزة الى لبنان الى سورية. هذا التطور يتزامن مع اعراض المرض التي بدأت تظهر على دولة الاحتلال في الداخل بشكل غير مسبوق في تاريخها والتي استدعت طرح سؤال المصير من الإسرائيليين انفسهم.
استعراض القوة في السماء واستباحة الأجواء فوق المدن السورية سوف ينتهي قريبا جدا، إسرائيل ستظهر اقصى ما لديها من وحشية وعدوانية كي لا تلتزم بالمعادلة الجديدة على الجبهة السورية، لكن بتقديرنا ستفشل، لان رياح التغير في البيئة الاستراتيجية هبت ولا تفلح محاولات وقفها. وستدفع إسرائيل ثمن تراكم الفشل الأمريكي في المنطقة وضعف تأثيرها في اتجاهات السياسات الجديدة. لم تكن إسرائيل يوما بهذا الصلف والعدوانية واستسهال ارتكاب المجازر البشعة الا لان الولايات المتحدة شكلت لها مظلة حماية عسكرية وسياسية من المحاسبة. والمعادلة البديهية تقول ” كلما ضعفت القضبة الامريكية عن المنطقة تضعف إسرائيل تلقائيا.
حرب اليمن باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة، والسعودية ستخرج منها باتفاق بات وشيكا واكيدا مع حركة انصار الله، والامارات بدأت تلغي كافة مشاريعها في اليمن وتنسحب من الملف ككل. وطموحات إسرائيل بالتواجد على سواحل البحر الأحمر، وفي اليمن وفي باب المندب وعلى الضفة الأخرى من الخليج لم تعد قائمة.
دول الخليج عموما خرجت من الاستراتيجية الامريكية لاخضاع ايران وسورية، وباتت تبحث عن مصالحها واستقرارها، والاهم بدأت عملية تشبيك المصالح مع الصين وروسيا القوى الصاعدة على المسرح الدولي.
تلك تفاصيل واحداث متسارعة نشهدها في دول وملفات وعلى امتداد الجغرافيا، وتلك تغيرات تجتمع وتتكامل في مشهد التحول الكبير المقبل، هو تحول لا يحدث في التاريخ بسهولة، ويأتي بعد مخاضات عصيبة. ونحن نشهد اليوم مخاض تحول القرن.
مآلات هذا التحول الكبير لم نصل بعد اليها بعد، لكن مؤشرات التغيير مبشرة وتصب في مصلحة شعوب المنطقة التي عانت من ويلات التدخل الأمريكي العسكري والسياسي، ومن جرائم حليفتها إسرائيل. هذه أيام فرغ صبرنا ونحن ننتظرها، ودفعت أجيال من شعوبنا دماء ودموعا من اجل الوصول اليها. لعل أولادنا يعيشون في اوطانهم بكرامة وحرية.
كاتب وإعلامي
Views: 4