لماذا يدعم الغرب مُخطّطات توطين النازحين السوريين في لبنان ويتكتّم على حملات طردهم في تركيا؟ وكيف جاء ردّ الفِعل اللبنانيّ مُتأخِّرًا؟ وهل سينخرط اللّاجئون في احتِجاجاتٍ عنيفةٍ في إسطنبول على غِرارِ زُملائهم في فرنسا؟ ومن يقف وراء حملات التّحريض العُنصريّة ضدّهم؟
عبد الباري عطوان
يحتلّ “المُهاجرون” السوريّون العناوين الرئيسيّة في بلادٍ عديدةٍ هذه الأيّام، ففي لبنان ضجّةً كُبرى في الأوساط السياسيّة والإعلاميّة إثر قرارٍ للبرلمان الأوروبي بدعم بقاء هؤلاء (تِعدادهم غير الرسميّ حواليّ مِليونين) على الأراضي اللبنانيّة، ويتّهم البرلمان الحُكومة اللبنانيّة بتصعيدِ خطابِ الكراهية ضدّهم، أمّا في تركيا التي يُوجد على أرضها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ، فالموقفُ مُختلفٌ، ولكنّه الأكثر سُوءًا، خاصّةً مع اقتَراب الانتِخابات البلديّة، التي لا تقلّ أهميّة عن نظيرتها الرئاسيّة والتشريعيّة التي جرَت في شهر أيّار (مايو) الماضي، وتكلّلت بفوز حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيّب أردوغان، فاللّافت أن الاتّفاق الوحيد وبالإجماع بين المُعارضة المهزومة، وحزب السّلطة الفائز، هو كراهيّة اللّاجئين السوريين، وحتميّة إبعادهم من البِلاد بأسرعِ وقتٍ مُمكن، لأنّهم باتوا يُشكّلون خطرًا على أمنِ البِلاد واستِقرارها، ومصدر “كُل” أزَماتها الاقتصاديّة وحتى البيئيّة والاجتماعيّة وربّما الزلازل أيضًا.
لنبدأ بلبنان أوّلًا، باعتَباره الأقرب والأصغر مساحةً، وأحد أكبر ضحايا المُؤامرة الأمريكيّة في الجِوار السوري، حيث تُفيد مُعظم المُؤشّرات بأنّ هذا القرار البرلماني الأوروبي وقد يكون مُقدّمة لـ” التوطين”، الكلمة التي تُثير رُعب وحساسيّة مُعظم اللّبنانيين، وعلى اختِلاف مذاهبهم، ودياناتهم، وتوحّدهم في جبهةٍ واحدةٍ للتصدّي لها، فبالكاد تخلّصوا من أكثر من 200 ألف لاجِئ فِلسطيني هاجَروا أو هُجّروا إلى أوروبا، ليجدون أنفسهم، أيّ اللّبنانيين، في مُواجهةِ أزمةٍ أكبر، وهي النّازحون السوريّون.
السيّد عصام شرف الدين وزير المُهجّرين اللبناني شجب القرار الأوروبي، واكتشف “فجأةً” أن الغرب يتعامل مع لبنان بلُغة المُستَعمر، ويتبرّعون بأراضيه للغير، وكأنّ لبنان مُستعمرة لهُم، ويعمل على توطين مِليون و200 ألف سوري، ويختم تصريحه بإطلاق صرخة “من أنتم”، التي تعود مُلكيّتها الفكريّة للعقيد الرّاحل معمّر القذافي.
مخاوف اللبنانيين “مشروعة”، ولكن هذه الصّرخة في غير محلّها، فهؤلاء الذين يقول لهُم “من أنتم” هُم الذين يُقدّمون السّلاح والطّعام للجيش اللبناني، ويدعمون القِوى التي حوّلت لبنان فِعلًا إلى مُستَعمَرَةٍ أمريكيّة، ويُشجّعون السوريين على الهِجرة إليه، بفرض الحِصار التّجويعي على سورية أوّلًا، وتقديم المُساعدات الماليّة لهؤلاء اللّاجئين، لتصعيب عودتهم إلى بلادهم.
بعض المسؤولين اللّبنانيين ليسوا بارعين في الصّراخ والشّكوى فقط، وإنّما قِصَرِ النّظر أيضًا، والبحث عن الحُلول النّاجعة للأزمات التي تُواجههم، وأبرزها “أزمة” النّازحين، فكيف يُمكن حل هذه الأزمة التي يتحدّثون عنها ليل نهار وهم يُغلقون قنوات الحِوار كُلّيًّا مع سورية استِسلامًا وتنفيذًا للتعليمات الأمريكيّة، ولم يَزُر أيّ رئيس لبناني، أو رئيس حُكومة لبنانيّة دِمشق مُنذ بداية الحرب على سورية قبل 12 عامًا، فمع من ستتفاوضون على عودة النّازحين مع الهند مثلًا؟
أمّا إذا انتقلنا إلى تركيا فالعداء العُنصريّ الطّابع للمُهاجرين السوريين يَبلُغ ذروته، مع اقتِراب الانتِخابات البلديّة بعد عدّة أشهر، فالرئيس أردوغان يُريد استِعادة مُدن كُبرى خسرها في الانتِخابات الماضية، مِثل أنقرة العاصمة السياسيّة، وإسطنبول العاصمة الاقتصاديّة والتاريخيّة، ولهذا يُكثّف الحمَلات لطرد المُهاجرين السوريين عمليًّا، والعرب أيضًا وبدَرجةٍ أقل.
وتُفيد أرقام وزارتيّ الداخليّة والدّفاع أنه “أبعد” حواليّ مِليون لاجِئ إلى الشّمال السوري، وتُجري قوّات الأمن حملة اعتِقالات مُوسّعة هذه الأيّام في إطار مُضايقتها لهؤلاء، بحُجّة خرق قوانين الإقامة، حيث ممنوعٌ عليهم مُغادرة الولايات التي يُقيمون فيها.
العديد من المِليارات وبالعُملات الصّعبة تدخل الخزينة التركيّة سنويًّا من الاتّحاد الأوروبي كمُساعدات للّاجئين السوريين ولا تُقدّم الحُكومة التركيّة لهم إلّا القليل، ومع ذلك تتصاعد الحملات لترحيلهم بالقُوّة إلى المجهول، أو إلى دولتهم المُدمّرة المُحاصَرة بفِعل المُؤامرة الأمريكيّة الأوروبيّة الإعداد والعربيّة التّنفيذ، وكانت تركيا والرئيس أردوغان وحزبه الحاكم تحديدًا رأس حِربَتها.
من يُتابع الحمَلات السياسيّة والإعلاميّة التي تستهدف المُهاجرين السوريين في تركيا هذه الأيّام يشعر بالصّدمة، ولا يُمكن أن يُصدّق أذنيه أو عينيه، “فـ”فوبيا” اللّاجئين السوريين استفحلت وتفاقمت لدرجة أن رئيس بلديّة إزمير التّابعة للمُعارضة (تونغ سوير) قال إنهم هؤلاء (السوريين) بأنهم سبب انتِشار التلوّث في الولاية، ويرتادون الشّواطئ المحظور السّباحة فيها، أما أوميت أوزداغ رئيس حظب “الظّفر” القومي المُتعصّب، ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في التّحريض عندما حذّر من أن اللّاجئين السوريين يستعدّون للإقدام على احتجاجاتٍ في المُدُن التركيّة على غِرار أقرانهم المُهاجرين العرب الآخَرين في فرنسا ممّا يُعرّض أمن واستِقرار تركيا للخطر، مُلمّحًا أن احتِجاجات هؤلاء ربّما تكون أخطر لوجود السّلاح في أيدي بعض التنظيمات الإرهابيّة، ولا ننْسى في هذه العُجالة إقدام بعض المجالس البلديّة وإزمير تحديدًا، على إزالة جميع اللّافتات المكتوبة باللّغة العربيّة “لغة القرآن الكريم”.
***
ما دفعنا إلى التّعجيل في كتابة هذا المقال ليس فقط ما يَرِد هذه الأيّام بكثافةٍ عن هذه العُنصريّة الشّرسة ضدّ اللّاجئين السوريين عبر وكالات الأنباء العالميّة، وإنّما أيضًا ما نُشاهده على بعض محطّات التّلفزة التّابعة للمُعارضة السوريّة التي طفح كيْلها فيما يبدو من هذه المُمارسات، وتغيّر الموقف التركي في تقاريرٍ مُصوّرةٍ بالصّوتِ والصّورة.
أحد هذه المحطّات (سُبحان مُغيّر الأحوال) بثّت تقارير إخباريّة حول كيفيّة اعتِقال الشّرطة التركيّة بعض الشّباب السوريين وبطريقةٍ شرسةٍ لأنهم اخترقوا قانون الإقامة، وجاءوا إلى إسطنبول بحثًا عن عمل، علاوةً على الاعتِداءات المُتكرّرة على اللّاجئين السوريين والعديد من الإشاعات الفتنويّة التحريضيّة التي تهدف إلى تجريمهم، وآخِرها الاتّهام بسرقاتٍ وحتّى تسميم كلبٍ مُدَلّل!
أبواب سورية مفتوحة لكُل، أو مُعظم، السوريين في المنافي، ولكن يجب أوّلًا تهيئة الظّروف المُلائمة لعودتهم، وأبرزها تقديم اعتِذار، وتعويض الدّولة السوريّة عن كُلّ الجرائم التي جرى إلحاقها بحقّها وشعبها، من القِوى الاستعماريّة وحُلفائها العرب، والالتِزام بإعادة الإعمار وتمويله، وإصدار عفوٍ عام يشمل كُل من يلتزم بأمنِ البِلاد واستِقرارها، وإقامة دولة المُؤسّسات والعدالة والمُساواة، والإصلاحات السياسيّة والانتِخابات الشفّافة على أرضيّة المُصالحة والحُكم الدّستوري.
الرئيس السوري بشار الأسد أكّد لي عندما التقيته في أيّار (مايو) الماضي أن المرحلة القادمة هي مرحلة تحرير ما تبقّى من الأراضي المُحتلّة، وطرد المُحتلّين جميعًا، وإقامة دولة المُؤسّسات، ومُكافأة الشّعب السوري على صُموده والتِفافه حول دولته، وتخفيف مُعاناته، ونأمَل، والكلام لنا، أن تتهيّأ الظّروف اللّازمة من كُل الجِهات لتطبيق هذه الوعود، وممّا يُعيد سورية إلى مكانتها الإقليميّة والعالميّة التي تستحق.
Views: 7