غالباً ما يتم تناول شخصية الشاعر بالتهكم أكثر من غيره من المبدعين، ولاسيما في لوحات بعض فناني الكاريكاتير، وضمن بعض الأعمال الدرامية (مسرحياً، تلفزيونياً، سينمائياً)، سواء بوجه حق كأنموذج منتخب، أو من دون وجه حق. ولكي نحاول أن نعرف أسباب ذلك ورأي الشعراء توجهنا للشعراء: حسان الجودي، عبد العزيز موافي (مصر)، دارين حوماني (لبنان)، باسم سليمان لمعرفة كيف يرون هذا التهكم إن تابعوا بعضاً منه، وإن كان قد تجاوز المسموح به، وإن كان لذلك علاقة بثقافة مجتمعنا.
أوهام باذخة
يعيد الشاعر الجودي هذه السّخرية إلى مرجعية واقعية، ويعزو ذلك إلى «القداسة المَهولة التي رسختها الثّقافة العربية للشّعر والشّعراء» وانطلاقاً من ذلك هو يعتقد أن «هذا سببٌ كافٍ لتضخم الأنا الشعرية والشخصية لدى البعض، وعدّ الذات فريدة لا يجاريها متنبي أو سيّاب أو أدونيس» ويرى الجودي أن كثيراً من الاحتفالات الشعرية هي كاريكاتورية بشكل ما، فـ«الشّاعر الذي يتسلّق المنبر، لا يرغب بالنزول، وإنما يصر على مناطحة الغيوم، ودحر الغزاة والندب اللانهائي»، والشاعر الجودي يرى أنه «يمكن للشّاعر القدير أن يؤدي مسرحاً شعرياً متميزاً، لكن هذا لا يكفي لتحسين الصورة النمطية التي بدأت تترسخ للشاعر العربي، كمصدّرٍ للآهات الشعرية التي تجعل من الشخصية الفردية ارتكازاً يدور حوله الكون، وهي في الحقيقة مجرّد خرقة (مَعَريَّة). ويتطور الأمر إلى احتفال الشاعر بمنجزه الغامض، فيبتسم في صور السيلفي ويضحك، ويضع النّظارات الشّمسية، ويرفع القبعة، ويستقبل المهنئين، ويقدم لهم القهوة المرّة، غير مبالٍ بشيء».
لكن ماذا عن النصوص الشعرية؟ يرى الجودي أن نصوص الكثير من الشّعراء المعاصرين تحفل بالأوهام الباذخة، والخيالات المريضة، والإنجازات والفتوحات في الكون، إذ يظنّ الشّاعر نفسه معجزةً سماوية فلتتْ من عقالها، أو ضلع نبيٍّ سقطت في التراب، فأورقت المدن، ويعود هذا في رأي الجودي إلى فهم بعض الشّعراء لوظيفة الشّعر بصورة دونكيشوتية، فهم متأكدون من براعتهم الشّعرية والخطابية التي ستسمع من به صمم، وهم يتوقعون تغييرَ المزاج الشعبي بثلاثة أبيات، وإغواء نساء البلدة بأربعة أبيات، وهم يعتقدون بوهم سلاح الكلمة التي ستحقق الازدهار وتقضي على الأوبئة وتتحكم بالفيضانات، ولا يمكن لهم مطلقاً، استذكار أمثولة أفلاطون، وقد طردهم من مدينته الفاضلة لأنهم لا يقدمون المنفعة، على الأغلب يظهر هذا الشاعر (النادر) في كلِّ مكان. يقيم النّدوات، ويشارك في المهرجانات، وينشر في الصحف، وله صولات وجولات في مواقع التواصل الاجتماعي، وهكذا تبدو السّخرية حقيقيةً ومشروعةً من شعراءٍ يضعون الريش الملون على رؤوسهم، لكنهم لا يصنعون سوى الضجيج.
لكن الشاعر الجودي وإن وجّه سهام نقده لكثيرين من الشعراء يختتم مساهمته بإنصاف الشعر، فمضى يقول: «أما الشّعر، صديقنا الرائع، فلا يسخر من أحدٍ على الإطلاق، هو مشغول دائماً بالتحمية للسباقات الفردية الجديدة مع الشّاعر، حيث سيفوز الشعر دائماً ويخسر الشاعر».
السخرية من المدّعين
يرفض الشاعر عبد العزيز موافي محتوى السؤال بشدة قائلاً: «أنا لست مع فرضية أن الشاعر هو محل سخرية في لوحات بعض فناني الكاريكاتير أو في الأعمال الدرامية»، وينبّه إلى أنه «قد يلتقط أحدهم شخصية أحد مدعي الشعر لكي يسخر من ادّعائها، لكنني لم أستشعر السخرية من شاعر حقيقي»، كما لا يرى الشاعر موفي أن السخرية من الشعراء من ثقافة مجتمعنا، ويعيد المسألة إلى أن «الشاعر العربي ارتبط في الذاكرة التاريخية بالمدافع عن القبيلة، الذاكر لمناقبها، وأن الشعر هو ديوان العرب». ولا ننسى أن الشاعر كان موضع احترام الجميع، لأنه يتحدث بلغة مقدسة- فوق مجتمعية، لذا تصور العرب القدماء أن هذا الخطاب لا يمكن أن يصدر عن أنسي، لذا نسبوه إلى الجن في وادي عبقر، فالشاعر في ثقافتنا مرادف للنبي والكاهن والعراف والشامان، إنه ذلك الرجل الذي يقول كلاماً يعجز عن إتيانه العامة، لذا فقد تمتع الشاعر في ثقافتنا بقدر كبير من الاحترام الممتزج بالإعجاب بكل ما يقول، وهذه النتيجة تنطبق على أدونيس والسياب وعبد الصبور ودرويش، مثلما تنطبق على امرىء القيس وأبي تمام والمتنبي.
انهيار القيم
الشاعرة دارين حوماني تشير إلى المكانة الاجتماعية التي كانت للشاعر منذ أمدٍ بعيد، إذ كان ينطق باسم القبيلة أو القرية أو المجتمع، يعبّر عن آمالهم وأحزانهم وأمجادهم، لكنها ترى تغيّراً فتقول عنه: «أمّا الآن فللأسف يتمّ تهميش الشاعر أو تناول صفة «الشاعر» من دون قيمة روحية لمعنى «الشاعر»، وحوماني تحمّل الإعلام الجديد والتقليدي مسؤولية طرح الشّعر كمادّة صالحة للتهكّم، وفي الوقت نفسه ترى «ربما كَثُر الشعر ككلّ شيء في هذا العالم ولم تعد له قيمة وبات إلقاء الشّعر محطّ سخرية من جمهور واسع يرغب في برامج التسلية الخفيفة أو برامج تحضير الطعام أكثر من رغبته في سماع قصيدة، بات الشّاعر كائناً غريباً وينطق بكلماتٍ لا تقدّم ولا تؤخّر بل قد يصعب فهمها وتالياً فهو لا يتّفق مع سطحية وسذاجة أغلبية الشعوب».
وثمة سؤال ينهض حول كثرة ما ينشر إن كان شعراً أم لا، تقول حوماني «وما يلفت انتباهنا أن كلاماً كثيراً يُكتب تحت اسم الشعر ممّا قد يدنّي قيمته فلم نعد نميّز الشاعر الحقيقي من ذلك الذي يسمّي نفسه شاعراً بعد كتابة بضع كلمات أغلبها مسروقة بفعل العالم الإلكتروني. ما يُحزن هو هذا المستوى الذي وصلت إليه مكانة الشّعر والشاعر وصار الاستخفاف فيه مصدراً للضحك بدل الحزن مثل ما حدث في فيلم «السفارة في العمارة» لعمرو عرفة وبطولة الفنان عادل إمام الذي سخر فيه من قصيدة الشاعر أمل دنقل التي نظمها في مواجهة التطبيع والصلح مع «إسرائيل». وفي الصين تمّ تداول صورة لأهمّ رمز من رموز الشعر الصيني «دوفو» بالكثير من السخرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعملوا على تعديلها بطريقة تثير الضحك وذكروا تحتها كلمات «القنّاص»، «حامل المياه» وغيرها من كلمات تدلّ على السخرية من الشاعر. إنّ هذه الأمثلة تشير إلى انهيار القيم لدى المجتمع الحالي ولدى أغلبية الأجيال الصاعدة الذين يبحثون عن المرح واللهو أكثر ممّا يبحثون عن فضاء تعبيري ثقافي راق».
الشاعر كالمنجّم
الشاعر باسم سليمان يتقاطع مع زميله الجودي في الإشارة إلى زمن أفلاطون قائلاً: «عندما نبذ أفلاطون الشعراء، كان ينطلق في هجومه على الشعراء بسبب تخليهم عن (مبدأ الاسم)، والذي يعني أنه، لا فاصلة بين الدال والمدلول، فعندما يلقي الشاعر لعنته في هجاء أحد ما، كان الاعتقاد أن كل ذم ونعت ضمّنه الشاعر في هجائه، هو أمر واقع لا محالة، ومن هنا نفهم الجملة التالية لدى الشعراء الجاهليين: (أبيت اللعن). ويذكر الشريف الرضي أن الشاعر، إن أراد الهجاء(دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلًا واحدة) ونستطيع أن نفهم مما سبق أن الشاعر كان ساحراً في الأصل أو لنقل (كاهناً/ شامان) فالشاعر كان يقول شعره وفق المبدأين السحريين اللذين ذكرهما جيمس فريزر في كتابه الغصن الذهبي: مبدأ التماثل ومبدأ الانتشار.
كما يتقاطع سليمان مع موفي وحوماني بالإشارة إلى مكانة الشاعر تاريخياً، فيقول «كانت مدينة الحيرة تشتري ولاء القبائل عبر ضمان ولاء شاعرها الأكبر، لأن الشاعر كان قادراً على تغيير ولاء القبائل لكن هذا الدور انتهى ونستطيع أن نرى ذلك في بيت للشعر قاله دريد بن الصمة: (أمرتهم أمري بمنعرج اللوى/ فلم يستبينوا النصح إلا ضُحى الغد)، لكننا نستطيع أن نحدد الزمن الذي بدأ دور الشاعر فيه بالتراجع، في اللحظة التي انتقلت البشرية من مبدأ الاسم إلى مبدأ الكناية، فالكلمة لم تعد تعني الشيء عينه بل محاكاة له في العقل وفي هذه اللحظة تحول الشعر إلى فن لفظي، مجرد محاكاة باهتة للأصول وفي ذلك الزمن بدأ الأعشى الترزق على أبواب الملوك وقال النابغة الذبياني بيته الشهير، اعتذاراً من النعمان: (إنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي، وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنك واسِعُ).
أمّا كيف رسم الشاعر بذاته الصورة الكاريكاتورية فيختتم سليمان كلامه بـ«وتوالت القرون ومازال الشاعر يقف على أطلال أصله القديم كشامان، محذراً ومتنبئاً ورائياً، لكن – هيهات – ذلك زمن قد ولى. ومما سبق نلحظ الصورة الكاريكاتورية التي وصل إليها الشاعر، فهو كالمنجمين وإن صدقوا لكنّهم كاذبون».
Views: 5