رفاه نيوف
ما واقع أطفالنا بعد ثماني سنوات من الحرب، وما أنماط العنف الذي تعرضوا له وآثاره السلبية, وكيف ندير مرحلة ما بعد الأزمة، وكيف يمكننا تأهيلهم للعيش المشترك في وطن يتسع لأبنائه جميعاً؟ الدكتور سام عبد الكريم عمار -أستاذ المناهج وتدريس اللغة العربية في كلية التربية بجامعة دمشق يقول: للحديث عن الآثار التي خلفتها الأزمة في أطفالنا يجدر بنا أن نقسمهم إلى أربع فئات تبعاً للمنطقة التي يوجدون فيها. أولاها فئة الأطفال الذين يعيشون في مخيمات اللجوء خارج الوطن، وهؤلاء أُرِيدَ لهم أن يخرجوا من وطنهم لتفريغه من سكانه، واتهام الدولة بطردهم، ويُرَاد لهم أن يبقوا ويستوطنوا حيث هم. والأطفال في هذه المخيمات يتعرضون لعملية غسيل دماغ مكثفة، يُراد لهم منها أن ينسوا انتماءهم الوطني، وأن يتحولوا إلى أدوات تخدم أهداف من يمولون عملية تهجيرهم المصطَنَع، وإذا ما قُيِّضَ لهم أن يعودوا إلى الوطن، وهذا أملنا ورجاؤنا، يحتاجون إلى إعادة تأهيل للمواطنة في مختلف جوانبها.
وفئة الذين مازالوا في المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية المتطرفة, وهؤلاء يخضعون لعملية غسيل دماغ أقسى، لأنهم يُعلَّمون، إضافة لقتل روح الانتماء الوطني إلى وطنهم، ثقافةَ التخلف والتعصب والحقد والقتل والتدمير, وهؤلاء سيعودون أيضاً إلى كنف الدولة بعد القضاء على التنظيمات الإرهابية وتحرير المناطق التي تسيطر عليها, وهم بالتأكيد سيكونون بحاجة إلى إعادة تأهيل أكثر تعقيداً لأنها تتطلب تحريرهم من رواسب عقلية الإرهاب والتخلف والحقد والقتل من جهة، وتربيتهم من جديد على المواطنة في جوانبها كلها من جهة ثانية. والفئة الثالثة تضم الأطفال الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها مجموعات لها نزعة انفصالية مشبوهة، وهؤلاء يحتاجون إعادة تأهيل للمواطنة الحقيقية.
ورابع الفئات هم من بقوا في الوطن في المناطق التي تسيطر عليها الدولة، وهم في الحقيقة قسمان: قسم نزح من أماكن إقامته تحت ضغط المجموعات الإرهابية المسلحة إلى أماكن أخرى، وقد عانى كثير من هؤلاء ضغوطًا اقتصادية واجتماعية وعاطفية؛ وقسم بقي في أماكن إقامته الأصلية، ولكنه تعرض هو الآخر لضغوطات مختلفة، ولكنه الأقل تأثراً بتبعات الأزمة, وهذه الفئة الأخيرة تحتاج قدراً أقل من التأهيل مقارنة بسابقاتها، لأنها ظلت تدرس المناهج التي أعدتها الدولة لأبنائها، ولا تشويه بالبنية الأصلية لهذه المناهج.
تضافر الجهود
أما المسألة المتعلقة بكيفية دعم هؤلاء الأطفال فلا بد من الإشارة إلى ضرورة تضافر جهود مؤسستين مهمتين: الأسرة والمدرسة لأن التنسيق المتواصل بينهما يحمي الطفل من كثير من الضغوط النفسية التي يمكن أن يتعرض لها، ويجنِّبُه الانشطار بين مؤسستين متنازعتين، فالطفل يمضي في المدرسة جزءاً قليلاً من يومه الدراسي، ثم يمضي مع أسرته الوقت المتبقي, ولهذا ندعو الأسرة إلى تحمل مسؤوليتها تجاه أبنائها، والتنسيق المستمر مع المدرسة.
ويقدم د. عمار جملة من الرؤى التي يعتقد أنها تسهم إلى حد كبير في دعم أطفالنا في مواجهة الأزمة التي يمر فيها وطنهم:
إعطاء الأطفال القدوةَ والمثل من خلال تحويلها إلى سلوك عملي في تعاملنا معهم أولاً، وفي تعاملنا مع الآخرين من أبناء الوطن ثانياً. فإن كانت هذه فلسفتنا في بناء أوطاننا والحفاظ عليها استطعنا، في اعتقادي، أن نصمد في وجه قوى الهيمنة، وأن نحقق التماسك والازدهار.
إعطاء النموذج الصالح دائماً، والقدوة الحسنة والمَثَل، في القول والفعل، والتفكير والتعبير، في البيت وداخل المدرسة وفي الحياة العامة.
لنربِّ في أبنائنا شخصيةَ المواطن الشجاع، الحر، الجريء، الواثق من نفسه، الذي يحسن التعبير عن رأيه، وعما يسمعه ويراه ويحس به, وتكوين شخصية تمتلك هذه الصفات يقتضي تربيةً تتلاشى من مفرداتها وأساليبها وممارساتها وقيمها ومعتقداتها مصطلحات، كالقمع والإملاء والفرض، والعقاب والعنف، والتملق والنّفاق والكذب، والأنانية والفردية، والخديعة والمكر، والحقد والأذى، والتخريب والقتل والتدمير، لتحل محلها مفردات وأساليب وممارسات وقيم ومعتقدات مناقضة تماماً. إنها تتطلب إعطاءه الفرصة ليتكلم، والاستماع إليه، واحترام ذاته وتفرده واستقلاله، وتنمية قدراته العقلية، وفتح فرص الخلق والإبداع لديه.
إن إكساب أبنائنا هذه الخصائص سيكون قاعدة متينة لبناء أجيال ناضجة، منفتحة على الجديد بوعي ناقد متبصِّر بنتائج الأمور؛ ومدركة للغنى الذي يمكن أن تضيفه إلى التراث الفكري والثقافي تعدديةُ الآراء وتنوعها؛ ومستعدة لتقبل وجهة نظر الآخر واحترام رأيه وحقه في التفكير والتعبير.
. لنغرسْ فيهم وننمِّ لديهم منظومةَ قيم تعزز حسّ التعاون والعمل الجماعي، وتطور روح المبادرة الخلاقة وتحمل المسؤولية، وترسّخ نزعة الصدق والبذل والتضحية والفداء.
. لننمِّ لديهم حسَ التفكير الناقد، ونزعة الإبداع، عن طريق دعوتهم إلى التأمل فيما يسمعون ويقرؤون، ومقارنته بما يملكون من حقائق ومعارف وخبرات، وعدم التسليم به من دون تمحيص ومحاكمة وتدبّر؛ وتشجيعهم المستمر على طرح الأسئلة المعمَّقة حول كل جديد، والتعبير عن آرائهم بوضوح وجرأة وموضوعية.
إن أنموذجاً تربوياً كالذي قدمناه تتعاون في تطبيقه المدرسة التي تمثل السلطة التربوية والأسرة التي تمثل المجتمع كفيلٌ، إذا ما رافقه الإيمان الصادق والعميق بالوطن، وبحريته، ووحدة أرضه، واستقلاله، أن يرمّم ما تهدّم، ويسهم بفاعلية في إعادة تأهيل أطفالنا للعيش المشترك في وطن عظيم شامخ يتسع لأبنائه جميعاً: وطن كان منذ فجر التاريخ ومازال مهداً للحضارات، وموئلاً للأديان السماوية، وأفقاً رحباً لكل ما هو خير وإنساني.
الأطفال والأزمة
الدكتورة ريم سليمون- عميد كلية التربية في جامعة طرطوس تقول: إن للطفولة عوالم وفضاءات مختلفة عن عوالم الكبار، ومن الواجب علينا تأمين حياة لائقة بتلك الطفولة كي تنمو في جو مشبع بالأمان والطمأنينة اللذين يمنحان الطفل حياة نفسية وروحية تمكنه من بناء شخصية مستقبلية خالية إلى حد ما من الإشكالات والمعوقات الداخلية التي تعرقل مسيرة حياته وتقيده في سلسلة من الأمراض النفسية والسلوكيات غير السوية اجتماعياً وأخلاقياً.. وتتابع سليمون: إن وضع الأطفال في مواقف وأماكن لا تليق ببراءتهم هو جرم أخلاقي واجتماعي وإنساني لأنه سيخلق من هؤلاء الأطفال أناساً مشوهين إن لم يصبحوا مجرمين، فمن الأطفال اليوم من بات مشرداً بلا أهل ما يدفعهم للتسول ويتعرضون للكثير من المشاكل والاعتداءات الجنسية والبدنية التي تفضي إلى أزمات نفسية خطيرة.
وفي أماكن أخرى زج بالأطفال وتم إشراكهم في العديد من النشاطات العسكرية التي لا تتوافق مع أعمارهم ونموهم العقلي والنفسي وهذا سيؤدي إلى خلق جيل من العدوانيين المجرمين البعيدين عن الحياة العاطفية والذين لا يقيمون وزناً للقيم الإنسانية والعلاقات الاجتماعية القائمة على التعاطف والتفاعل الإنساني.
وتقول سليمون: للأسف يتركز العنف أول ما يتركز في الأسرة العربية وفي التربية، فالأم الجاهلة بأولويات التربية المقهورة أصلاً بالعنف التاريخي الواقع عليها منذ الولادة لن تستطيع إلا أن تكون حاضنة لثقافة العنف، إنها تشترك مع الأب في نقل نظرة خرافية عن العالم لأولادها, فالوالدان والأقرباء عموماً لا يجيبون عن أسئلة الطفل بل يغرقونه في التخويف والكذب، إنهم يخيفونه ولا يتورعون عن تهديده بالنار والحساب, إنهم يكسبونه عنفاً ثقافياً لن يجد الطفل مخرجاً منه إلا بعنف مقابل.
إدارة ما بعد الأزمة
وفي تساؤل عن مفهوم ادارة الأزمة تقول الدكتورة سليمون: إن إدارة الأزمة مهارة يحتاج معظم الناس للتدرب عليها والهدف الأساسي لإدارتها يكون بالتدخل للتخفيف من آثارها أو لمنع حدوثها والنموذج الأفضل هو وجود خطة لإدارة الأزمة, مثلاً إدارة الأزمة المدرسية تعلم المدرسة كيفية التحضير للأزمة وكيفية استخدام الخطة لمساعدتهم في أي نوع من مواقف الأزمة.
وأي أزمة تمر بمراحل ثلاث ولكل مرحلة خططها وأهدافها, وهي مرحلة قبل الأزمة وخلال الأزمة ومرحلة ما بعد الأزمة وهي مهمة جداً, فالعمل لا ينتهي بمجرد انتهاء الأزمة، فبعد الأزمة أي في مرحلة إعادة الإعمار يتم تقديم المساعدة للذين عانوا منها وتقديم المشورة النفسية للذين عانوا من اضطراب ما بعد الصدمة وإحالة بعض الحالات لمختصين ومراجعة فريق الأزمة الأدوار التي قام بها وتحديث الخطط والاستفادة من دروس الأزمة ذاتها.
لا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه قادر على حل المشكلة وإدارة الأزمات وحده، لأن الأزمة التي نمر فيها والعنف الذي نعانيه له خيوط وأطراف ستترك آثاراً عديدة لذلك نحن بحاجة دوماً لفريق عمل متكامل من جميع الاختصاصيين ومن جميع الجهات المسؤولة والمتطوعة والأهلية، والبدء بزرع أفكار قائمة على أساس وطني بعيد عن الانتماءات ما قبل الوطنية ونشر ثقافة الحوار كأساس للتعامل اليومي بدءاً من الأسرة والمدرسة وسيكون الطريق الوحيد لردع مجتمع الغد من الانزلاق نحو العنف مجدداً.
ورشات للدعم النفسي في مدارسنا
وتقول مشرفة المنهج الصحي في مديرية تربية طرطوس أحلام حسن ملحم: إن أخطر آثارها ما يظهر لاحقاً وينمو مع نمو الأطفال الذين شاهدوا مآسيها وتعرضوا للتشرد والمعاناة، فصور القتل والرعب والدمار لن تمحى من ذاكرتهم بسهولة وستترك أثرها البالغ على المدى الطويل فتظهر بشكل أمراض نفسية وقد تؤدي إلى أمراض جسدية فيشكو الشخص كثيراً من عوارض صحية منشؤها نفسي ويبدو الانكسار عليه فهو مهزوم من الداخل ويعاني الضعف والقلق والتوتر وعدم التركيز والاكتئاب الدائم وبعض الاضطرابات السلوكية والخوف والأحلام المزعجة (الكوابيس). ويتجلى أثر الحرب على التعليم حيث يجد هؤلاء الأطفال صعوبات في التعلم بسبب تركه بيته وأصحابه، فتعيش الغربة في نفسه ما يجعله غير متكيف مع مجتمعه ومحيطهفلابد من تضافر الجهود لتفادي هذه الآثار النفسية والاجتماعية على حياة الأطفال، من خلال ورشات الدعم النفسي وخلق الأجواء التي تسعدهم وتنقذهم وتقديم كل أنواع الدعم لهم.
والعمل على سد الثغرات التعليمية من خلال الدورات الترفيهية والدراسية وتعويضهم عن كل ما فقدوه في زمن الحرب, وكان للمرشدين الدور الفاعل في التوجيه والإرشاد والدعم النفسي للأطفال في مدارسنا ولا ننسى الدور الكبير الذي يقع على عاتق الإعلام بكل مجالاته ومختلف وسائله وعلى وزارة الثقافة من خلال مراكزها المنتشرة في كل محافظة.
Views: 8