اتصل وزير الدفاع مارك إسبر بنظيره التركي في 29 تموز/يوليو للمرة الأولى منذ أن تولى رئاسة البنتاغون رسميّاً، ولم تتم المكالمة بشكل جيد. وفقاً للقراءة التركية للمكالمة الهاتفية، طلب وزير الدفاع التركيّ خالوصيّ أكار من الولايات المتحدة منح تركيا منطقة عازلة في شمال سورية تمتد على مسافة 20 ميلاً إلى داخل البلاد.
تبرر تركيا طلبها في اتهامها بأنها وحدها تستطيع توفير الأمن، وأن
المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سورية هي بؤر إرهابية. يجادل
المسؤولون الأتراك بأن حزب العمال الكردستاني، يسيطر على الكانتونات
الكردية في شمال وشرق سورية.
قال أكار: إنه إذا لم توافق الولايات المتحدة على المطالب التركية، فإنَّ تركيا ستشنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال سورية.
هل المخاوف من الإرهاب الكرديّ والحكم الذاتيّ يُحفِّزان فعلاً على مطالب تركيا المتزايدة العدوانية؟
لقد زرتُ المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سورية مرتين في السنوات
الخمس الماضية: في كانون الثاني/يناير 2014، ومرة أخرى في تموز/يوليو. ما
أنجزه الأكراد والعرب والمسيحيون واليزيديون وغيرهم ممن عملوا معهم أمر
رائع.
هذا، وبالنسبة لتركيا وأنصارها الذين يشكون من دعم الولايات المتحدة
للمجموعات الكردية في سورية، سعت الولايات المتحدة إلى إقامة شراكة مع
تركيا في البداية، لكنها خلصت إلى أن هزيمة “داعش” تتطلب العمل مع خصومها
بدلاً من العمل مع تركيا التي تدعم “داعش”.
بينما يقول الوزير أكار: إن المنطقة برمتها هي كيان إرهابيّ تحت سيطرة حزب
العمال الكردستاني، فإنَّ صورة مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان
أقل وجوداً في المنطقة الآن مما كانت عليه قبل خمس سنوات.
أنا شخصيّاً وجهت انتقاداً لتصرفات حزب العمال الكردستانيّ في الماضي،
وتساءلت أيضاً عن الفلسفة السياسية للحزب، ولكن الحزب تطور الآن. والأهم من
ذلك، قضت محكمة بلجيكية مؤخراً بأن حزب العمال الكردستانيّ لم يكن جماعة
إرهابية.
حتى إذا كان حزب العمال الكردستاني أو، على الأرجح، بعض فروعه، يقوم
بعمليات مسلحة ضد الأتراك، تبقى هناك حقيقتان: أولاً، تقوم تركيا باغتيالات
سياسية للقادة الأكراد أكثر مما يفعل الأكراد مع الأتراك؛ وثانياً، أنه لا
يوجد دليل على أن الأكراد شنوا أي هجمات إرهابية من سورية. في الآونة
الأخيرة، مثلاً، اغتال مهاجمون ضابطَ مخابراتٍ تركيّاً في أربيل، كردستان
العراق. وألقى الأتراك باللائمة على حزب العمال الكردستاني، لكن حتى
التقارير التركية تشير إلى أن الأكراد من تركيا وربما العراق هم المسؤولون،
وليس الأكراد في سورية.
إذا لم تحفز المخاوف المتعلقة بمكافحة الإرهاب مطالب تركيا، فماذا سيحدث في ما يتعلّق بهذا الشأن؟ هناك ثلاثة عوامل:
أولاً، تسعى تركيا إلى الاستيلاء على الأراضي. في عمليتها السابقة في
عفرين، لم تشارك تركيا في مكافحة الإرهاب، ولكن في التطهير العرقي. سوف
تمنح منطقة عازلة طولها 20 ميلاً تركيا سيطرة على معظم البلدات، بل المدن
التي يحكمها الأكراد: القامشلي، “كوباني” عين العرب، عامودا، المالكية، عين
عيسى، ومنبج.
قد تؤدي إقامة منطقة عازلة على الجانب السوريّ من الحدود إلى اندلاع حرب
أهلية، حيث لا يجد أمام الأكراد الذين فروا من تركيا أي مكان آخر يذهبون
إليه. إذا كانت تركيا مهتمة حقّاً بمكافحة الإرهاب، عليها أن تخلق منطقة
عازلة داخل أراضيها.
لكن يجب على الدبلوماسيين والجنرالات الأتراك أن يدركوا أن القوات التركية
في المناطق الكردية في سورية ستكون استفزازية مثل القوات الأرمنية أو
اليونانية داخل تركيا. باختصار، إن نشر القوات التركية في سورية، ربما يشكل
السبب لاندلاع حرب محدودة.
ثانياً، يريد أردوغان حملة عسكرية لصرف الأتراك عن إخفاقاته. الاقتصاد
التركي يتأرجح. إن إلقاء اللوم على الأعداء (أو الحلفاء السابقين كما في
حالة فتح الله غولن) يفقد صدقيته عندما يتم القيام به بشكل متكرر.
إنَّ خسائر أردوغان المتكررة في انتخابات اسطنبول تهزّ ثقة الزعيم التركي.
مع اقتراب تركيا الحديثة من مرور مئة عام، يدرك أردوغان أن الشيء الوحيد
الذي يحتاجه هو نصر عسكري كبير. ومن المفارقات، أن غطرسة أردوغان قد تدخل
تركيا في حرب وإرهاب قد ينتهيان في نهاية المطاف بتقسيم تركيا.
ثالثاً، وربما الأهم، تعطش تركيا للنفط. تفتقر تركيا إلى مواردها الخاصة من
الغاز والنفط، وقد وضعت تركيا نفسها منذ مدّة طويلة كمركز للطاقة.
تجلب رسوم عبور خطوط الأنابيب إلى خزائن تركيا مليارات الدولارات سنويّاً.
إن عدوانية تركيا في قبرص مدفوعة إلى حدّ كبير بالرغبة في الحفاظ على
احتكار تركيا لخطوط الأنابيب بقدر ما هي رغبة في الحصول على موارد النفط
والغاز الخاصة بها.
ستقع الغالبية العظمى من موارد النفط السورية في “المنطقة العازلة” التي
تسعى تركيا لاحتلالها. في الواقع، ليس ما تسعى إليه تركيا هو طرد الأكراد
السوريين من المنطقة العازلة فحسب، بل امتلاك احتياطي النفط. هذا سيكون
بمثابة نعمة للاقتصاد التركي، ولأروغان نفسه أيضاً، إذ لا يمكن لأي صفقة
تجارية كبرى أن تمرّ اليوم في تركيا دون أن يستفيد منها أردوغان أو أفراد
أسرته.
كان إسبر محقّاً في تعريف الصين بأنها أكبر تهديد استراتيجي طويل الأمد
للولايات المتحدة، لكن مهمة وزير الدفاع ليست فقط التصدي للتهديدات طويلة
الأجل، ولكن أيضاً الأزمات قصيرة الأجل. إذا أراد إسبر منع حدوث أزمة
متنامية في شرق البحر المتوسط أو سورية، فمن الأهمية بمكان أن يخبر نظيره
التركي أنه لن يكون هناك منطقة عازلة في سورية، ولن يكون هناك المزيد من
القوات التركية على الأراضي السورية.
لا ينبغي له أن يقع ضحية للعبة التركية المتمثلة في إبراز مواقف متطرفة
مبالغ فيها من أجل التماس تنازلات مفترضة لا يمكن الدفاع عنها. يجب أن يكون
الجواب لا لما تريده تركيا.
أفضل طريقة لمعالجة المعتدي هي الوقوف بوجهه، وليس استرضاءَه.
مداد مركز دمشق للابحاث والدراسات
Views: 7