أمريكا أعلَنت الحرب على أردوغان.. ماذا يعني اعتِراف مجلس نوّابها بالأغلبيّة السّاحقة بـ”الإبادة الأرمنيّة” وفرض عُقوبات على عدّة وزارات ومسؤولين؟ هل ستَصمُد اللّيرة التركيّة هذه المرّة؟ وكيف سيكون الرّد التركيّ على هذهِ الطّعنة الأمريكيّة في الظّهر؟
أعلنَ مجلس النوّاب الأمريكيّ أمس الحرب على الحُكومة التركيّة عِندما اعترف بالأغلبيّة السّاحقة (405 نوّاب مُقابل مُعارضة 16 فقط) بـ”الإبادة الأرمنيّة”، وأقرّ سِلسلةً من الإجراءات العِقابيّة الاقتصاديّة تقدّمت بها إدارة الرئيس دونالد ترامب، من ضِمنها فرض ضرائب جديدة على وارِدات أمريكا من الحديد والصّلب التركيّة، ووضع وِزارتيّ الدّفاع والطّاقة على قائِمة العُقوبات إلى جانِب عددٍ كبيرٍ من المَسؤولين على رأسِهما وزيريّ الوِزارتين المَذكورتين آنِفًا.
الرئيس رجب طيّب أردوغان وصَف هذه الخطوة بأنّها بِلا أيّ قيمة حقيقيّة، بينما استَدعى وزير خارجيّته السيّد مولود جاويش أوغلو السّفير الأمريكيّ في أنقرة إلى مقر وِزارته وسلّمه رسالة رسميّة احتجاجيّة.
تركيا تنفي ارتكاب مجازر إبادة ضِد الأرمن وتُشكّك بالأرقام المَطروحة حول عدد ضحاياها، أيّ مِليون ونِصف المِليون قتيل، وتقول إنّ مِئات الآلاف من الأرمن والأتراك قُتِلوا في معارك الحرب العالميّة الأُولى، ولكن اعتراف أمريكا بعد فرنسا ودول أوروبيّة أُخرى بهذه “الإبادة” يُشكّل مَوقفًا سِياسيًّا داعِمًا للرّواية الأرمنيّة، وقد يكون أرضيّة لمُطالبات قانونيّة لتركيا الدّولة بدفع تعويضات باهِظة للأرمن.
التوتّر في العلاقات الأمريكيّة التركيّة ليسَ جَديدًا، ويعود إلى عدّة سنوات ومُنذ اللّحظة الأُولى التي بدأت فيها الحُكومة التركيّة تسعى لشِراء منظومات صاروخيّة دفاعيّة من طِراز “إس 400″، وذَهابها إلى ما هو أبعد من ذلك، أيّ التّفاوض لشِراء الطّائرة الروسيّة المُقاتلة سو 35” كبديل نظيرتها الأمريكيّة “إف 35”.
ما نُريد التّأكيد عليه أنّ تخلّي الرئيس أردوغان عن اتّفاقه مع الرئيس ترامب ووقف قوّاته في شِمال سورية بالتّالي، وتوقيع اتّفاق مع الرئيس فلاديمير بوتين في قمّة سوتشي بتسيير دوريّات روسيّة تركيّة مُشتَركة يَنقُض الاتّفاق الأمريكيّ كان بمَثابة المُفجّر للاحتِقان المُتضخّم في العلاقات الأمريكيّة التركيّة.
تركيا فكّكت عُضويّتها مع حِلف شِمال الأطلسي (النّاتو) بشَكلٍ مُتدحرجٍ، وأقامت تحالفًا استراتيجيًّا مع موسكو كبديل، الأمر الذي أدّى إلى تدهور العُلاقات مع الولايات المتحدة، زعيم هذا الحِلف، ومُعظم الدول المُنخرطة في صُفوفه.
الخِلاف التركيّ الأمريكيّ وصَل إلى ذروته عندما بعث الرئيس ترامب رسالةً تطاول فيها بشكلٍ شخصيٍّ على الرئيس أردوغان، وصفه فيها بالعنيد والأحمق، وهدّد فيها بتدمير الاقتصاد التركيّ إذا لم يُوقِف هُجومه على الأكراد في شِمال سورية، أصدقاء الولايات المتحدة، وحُلفائها الذين قاتلوا “الدولة الإسلاميّة” (داعش) تحت مِظلّتها وبتدريبٍ وتسليحٍ منها.
السُّؤال هو عن حجم الضّرر الذي يُمكن أن يَلحق بتركيا، سياسيًّا واقتصاديًّا، من جرّاء تفاقُم الخِلاف مع الحليف الأمريكيّ السّابق، وما هي الخطوات التي يُمكن أن يقدم عليها الرئيس أردوغان في ظِل خطر العُقوبات الأمريكيّة والاقتصاديّة مِنها على وجه الخُصوص؟
من الصّعب إعطاء إجابة قاطعة في هذا الصّدد، ولكن بالنّظر إلى المُؤشّرات الأوّليّة، وأبرزها تَراجُع سِعر اللّيرة التركيّة مُقابل الدولار بحواليّ 0.2 بالمِئة، واقترابها من سِت ليرات مُقابل الدولار فور الإعلان عن نتائج تصويت مجلس النوّاب، يُمكن القول بأنّه لا خِلاف على احتماليّة تَأثُّر الاقتصاد التركيّ سَلبًا من هذه العُقوبات، وإنّما الخِلاف عن حجم هذا التّأثير.
الاقتصاد التركيّ يعيش مرحلةً من الاستقرار حاليًّا رُغم الضُّغوط الأمريكيّة والأُوروبيّة، فالصّادرات زادت بنسبة 11 بالمِئة مُنذ بداية هذا العام، ومُعدّلات التّضخّم تراجعت إلى أقل من 10 بالمِئة، وبلغ الدّخل من عوائد السّياحة حواليّ 44 مِليار دولار في الثّلاثة أرباع الأُولى من هذا العام أيضًا، حيثُ دخل تركيا حواليّ 45 مِليون سائح، حسب الإحصاءات الرسميّة، ولكن هذا لا يعني أنّ ترامب لا يستطيع أن يفعلها للمرّة الثانية، ويُحاول ضرب قيمة اللّيرة التركيّة وتخفيضها إلى مُعدّلات أكبر من تلك التي وصَلت إليها في حربه الأُولى قبل ثلاثة أعوام أيّ أكثر من سبعة ليرات مُقابل الدّولار، حسب تقديرات الخُبراء.
الرئيس أردوغان لا يستطيع أن يُواجه هذه العُقوبات الأمريكيّة بفاعليّة دون تغيير سِياساته في مِنطقة الشرق الأوسط، التي خلّفت له أعداء، أكثر بكثيرٍ من الأصدقاء، وخاصّةً في المِلف السوري.
الأمر المُؤكّد أنّ تحالفه الاستراتيجيّ مع روسيا سيكون حاجز صَد وبديل صُلب في مُواجهة هذه العُقوبات الأمريكيّة، ولكنّ المطلوب ما هو أكبر من ذلك، أيّ الانفتاح على جِيرانه السوريين في الشّرق والجنوب، وإعادة إحياء اتّفاق “أضنة” لأنّ هذه الاتفاقيّة التي يدعمها الروس هي الطّريق الأقصر والأكثَر فعاليّة لحِماية الأمن القوميّ التركيّ، وممّا يجعَل وجود القوّات التركيّة على الأرض السوريّة أمر غير مطلوب، وقد يُؤدّي إلى تَهديدٍ أكبر لهذا الأمن التركيّ، لأنّ الدولة السوريّة لن تقبَل به، وسَتُقاومه بكُل الوسائل.
أمريكا أعلنت الحرب على حليفها التركيّ الذي خاض معها الحرب على سورية، ولم تكتفِ بطَعنه بالظّهر فقط مثلما فعلت بحُلفائها الأكراد، الأمر الذي يتطلّب رَدًّا قويًّا، وتحالفات استراتيجيّة جديدة، فهل يَفعلها أردوغان؟
“رأي اليوم”
Views: 1