خاضت إسرائيل حرباً عسكرية شرسة صيف عام 2006 دون أن تحقق عبرها النتائج التي كانت تتوقعها منها بسحق حزب الله وإنهاء وجوده العسكري والسياسي. كانت تلك حرباً مباشرة بمساعدة عربية وغربية واضحة. ثم مع انطلاقة الأزمة في سورية كانت معالم حرب بالوكالة عبر الجماعات الإسلامية المتشدّدة تتبلور للهدف نفسه وهو القضاء على حزب الله. سورية كادت لتكون رأس جسر لهذه الخطة التي لم تنجح أيضاً. لكن الاستراتيجية الجديدة قضت بمعادلة مختلفة عمادها الاقتصاد هذه المرة. حرب تموز اقتصادية! مَن قال: «إنّ الحرب ليست إلا امتداداً للسياسة بوسائل أخرى» غفل أن يضيف إليها كلمة الاقتصاد. الاقتصاد في عالم اليوم هو أداة حسم قاطعة لإنهاك العدو وخنقه وإسقاطه. غيرّت الولايات المتحدة الأميركية من وسائلها مع حركات المقاومة في المنطقة ومنها حزب الله، وبدل أن تكون المطرقة الأداة التي في اليد للقهر والمواجهة العنفية، أصبح الدولار هو الأداة الجديدة.
لبنان في حالة الحريق إذاً، فما يقارب الشهر من الاستنزاف والضغوط في الشارع والإعلام والسياسة والاقتصاد لم ينتج عنها سوى استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري. إنجاز ناقص كان يُخطط لأن يُستكمل لتغيير المعادلة السياسية الحاكمة منذ مجيء العماد عون 2016 وفوز حزب الله وحلفائه بالأغلبية النيابية 2018 . لم يتوقف التهويل، ولم تخفت أصوات المبارزة لتقديم تنازلات سريعة إضافية تقضي بتشكيل حكومة تلبّي الشروط والمطالب الأميركية. كانت مطالب أميركا سافرة رغم انقلاب الموازين في الإقليم لصالح محور المقاومة فهي تطلب في لحظة تراجعها وانكفائها العسكري ما لم تطلبه في أوْج اندفاعها العسكري:
1 ـ لا حكومة فيها وزراء من حزب الله.
2 ـ الحكومة القادمة مهما كان شكلها يجب أن يكون بيانها الوزاري واضحاً لجهة تطبيق القرارين الأمميّين 1559 و1701.
3 ـ السياسة الخارجية للبنان يجب أن تكون موافقة لسياسات أميركا في المنطقة ومن ضمنها ما يتعلق بصفقة القرن، و»كأنها لم تمت بعد»!
4 ـ أفعال الحكومة يجب أن لا تقف عند حدود الانسجام مع السياسات الأميركية، بل أن تكون مباشرة في عدائها لمحور المقاومة.
5 ـ لا مال ولا مساعدات ولا استنقاذ للوضع النقدي والاقتصادي الدقيق إلا بعد تنفيذ الإجراءات السالفة.
معنى ذلك أنّ لبنان في ظلّ هذه الظروف التي لا يستطيع أن يعدّل من حدّتها ذاهب إلى الفوضى. فالعماد عون وحزب الله وبقية حلفائهما رغم إدراكهم لخطورة الوضع الاقتصادي والمالي لا يمكنهم أن يسلموا البلد لخصومهم الذين يتهاونون مع مطالب أميركية ركزت عليها الوفود التي زارت لبنان في الأشهر الأخيرة وتتمحور حول مسألتي ترسيم الحدود مع الكيان الإسرائيلي وإطلاق عجلة استخراج الغاز والنفط من البحر. ولا يمكنهم أن يفرضوا قيوداً على الحكومة المنوي تشكيلها تكسر الموازين التي قام عليها الاستقرار وجنّب لبنان فتناً طائفية وحرباً أهلية.
الاستقرار الذي هو محصل عاملين: قوة المقاومة، وقوة التوافقات الداخلية والخارجية.
خصوم حزب الله في الداخل وأعداؤه في الخارج ليسوا لوحدهم اللاعبين والفاعلين على الساحة المحلية. صحيح أنّ للحرب التي تُخاض بوجهه منطقها الخارجي من جهة القدرة على فرض الانهيار، وترتيباتها الداخلية من جهة الفوضى وتعطيل البلد، لكن حتى اللحظة لم يشهر الحزب أيّاً من أوراق قوته التي تتمثل:
1 ـ بتعطيل تشكيل حكومـــة لا تمـــثل مصالحه ومصالح حلفائه.
2 ـ تشكيل حكومة لا يتمثل فيها خصومه فهو وحلفاؤه يملكون الأكثرية النيابية.
3 ـ الشارع الذي لم يتحرك حتى اللحظة لفرض توازن جماهيري.
اليوم تتبدّى نتائج ما جرى منذ السابع عشر من تشرين الأول بشكل مكشوف: صراع بين القوى الكبرى الخارجية على موقع لبنان ودوره، وصراع بين القوى المحلية على الحصص داخل النظام.
وكما هو معلوم فإنّ السلطة في لبنان كانت على الدوام انعكاساً لهذا التوازن الدقيق بين ممثلي الطوائف، وحسابات القناصل السفارات . دخول حزب الله والعماد عون على هذا التوازن، شكل تحدّياً لهذه المعادلة المحرمة. وما يحصل اليوم من قبل القوى الخارجية وحلفائها في الداخل، محاولة لاستعادة ما كان، عبر الشارع، أو عبر المال والضغط الاقتصادي، وربما نقترب من مجال الدم! بعد مقابلة العماد عون مساء الثلاثاء بدأت الخيارات لدى حزب الله تقترب من لحظة الحسم. يعرف حزب الله أنّ لكلّ خيار محاذيره وأعراضه الخطيرة. الانتظار في الفراغ بالنسبة إليه مكلف، والمبادرة لتشكيل حكومة مواجهة مكلفة أيضاً. ولكن لا بدّ في نهاية الأمر من قرار! على أنّ المواجهة من داخل النظام حتماً هي أفضل من المواجهة من خارجه! بمعنى آخر أن يواجه حزب الله وحلفاؤه من خلال مؤسسات الدولة حكومة، جيش، مصرف لبنان… بعد سلسلة من التعيينات الضرورية أضمن له من المواجهة عبر المؤسسات والآليات الحزبية ! في الأفق لا تسوية متوقعة مجدّداً بالإكراه !الحكومة الجديدة لو تمّت تسميتها ب ـ حكومة حزب الله سيكون ذلك واقعياً أكثر هذه المرة، ولكنها ستكون أمام تحدّيين اثنين: ما يجب عمله، وما ينبغي تفاديه، وهذان التحديان يصطدمان بقوانين الفوضى الداخلية والعقوبات الخارجية حتماً
Views: 5