بين الممكن والمستحيل، حد قاطع من التفاهمات التي لا يمكن أن تلتقي أبداً، وكذا هو الحال بين السياسات الحكومية والقطاعات الإنتاجية في لبنان. واقعٌ طويلٌ من المعاناة فرضتها معالم نظام اقتصادي سُرِّب ليُكرّس أوائل التسعينات فيضرب مع الحصار موعداً عند كل فسحة أمل بتطوير أي من مسارات الإنتاج في هذا البلد لاسيما تلك المتعلقة بسهولنا وما تضمه في مختلف أتلام الزراعة، كالموز مثلاً الضيف الذي اتخذ هوية لبنانية وبات اليوم سفير أراضينا إلى سوريا جرح العروبة الذي داوى جراحنا وما زادته سياسات السُلطة عندنا إلا وخزاً في خاصرة الأمن والسيادة والسياسة والإقتصاد..
من بوابة سوريا دخل موز لبنان أول الأسبوع الماضي إلى أسواقها التي ستستوعب عشرات آلاف الاطنان، بعد مساعٍ حثيثة بدأت من أدراج وزارة الزراعة إلى السفارة السورية في بيروت مروراً بحركة نشطة لوفود من الوزارة وصلت إلى دمشق دون أن تتكلل جهودها بحل شامل ومرضٍ للمزارع اللبناني الذي حملت المقاومة قضيته على اكتافها ساعية على طريق القصر الجمهوري للجمهورية المقاوِمة، هناك برزَ من يعي مصلحة ابناء الأرض ربما أكثر من حكام الأرض أنفسهم، فكان القرار أهلا وسهلاً بانتاج لبنان الشقيق الذي لم نتخلى عنه يوماً..
وفي زحمة الأزمات وما يمر على طرقاتها المقطوعة من أحاديث ومقولات يصر البعض على قطع طرقات التواصل بين بيروت ودمشق، ودون الحاجة الآن للدخول في حواديت زمن الحرب التي تحطمت أهدافها على أطراف الحدود بين المصنع اللبناني وجديدة يابوس السورية مع عبور قافلة آليات مجهزة للتصدير انطلقت من السهل الجنوبي في مشهد سيظل يتكرر لغاية اليوم الأخير من نيسان المقبل وفق القرار الذي أقرته وزارة الإقتصاد السورية وبموجبه يسمح للمصدرين اللبنانيين بتصدير أكثر من خمسين ألف طن من الموز إلى الأسواق السورية لتكسر حصاراً مزدوجاً فرضه على الجانب اللبناني أزلام التبعية الذين اتخذوا من قطع الطرقات أسلوباً، وعلى الجانب السوري قرارات لا تمت إلى العربية بصلة وتتخذ من مبدأ النأي بالنفس سبيلاً لقطع العلاقات مع دولة عربية شقيقة، وفي كلا الحالتين يصر لبنان على التموضع في متراس المُحاصِر، لسوريا في العلن ولنفسه خلف الأكمة..
وفي ظلال كل ذلك، ورشة عمل كبيرة تشهدها مشاغل ومعامل توضيب الموز في الجنوب والتي صارت اليوم مجهزة بتقنيات عالية تعطيها القدرة على الحصول على المواصفات المطلوبة للمنافسة العالمية، إذ يشير محمود المصري وهو مدير أحد معامل الإنتاج في عدلون لموقع العهد الإخباري إلى أن الشاحنات تنقل يومياً الموز من السهول والحقول إلى المعمل لتبدأ عملية تنظيفه ونزع الشوائب منه ثم غسله وتقطيعه ففرزة وفق معايير الجودة المطلوبة ليخضع بعضها للغسل مجدداً فالتشميع الذي يخوله تحمل ظروف التصدير ومن بعدها تبدأ عملية توضيبه وتجهيزه في الصناديق المخصصة وفق أوزان محددة تمهيداً لإدخاله إلى البرادات المخصصة لنقله إلى الخارج. ويلفت المصري إلى أن الموز اللبناني اليوم بات ينافس أنواعاً من الموز المعروف عالمياً كالموز الإكوادوري، وذلك بفضل الجهود الذي يبذلها المزارعون الذين ينتجون ـ في خيم محمية ـ أصنافاً من الموز الذي أحضروا شتوله من الخارج.
ويقول عضو نقابة مصدري الفاكهة والخضار في لبنان رضا فاضل أنه مذ زُرع الموز في بلادنا كان هدفه أن يصل إلى الدول العربية وعلى رأسها سوريا التي لا تنتج موزاً في سهولها، ولكننا للأسف مررنا بمراحل أليمة وصعبة نتيجة للسياسات في المنطقة والتي تخلق عراقيلاً سنوية لقطاعنا، وقد أضيف إليها هذا العام الحراك الذي أثر سلباً علينا بقطعه للطرقات مسبباً بتأخير التصدير من منتصف تشرين أول إلى اليوم. متابعاً: “قطع الطرقات تزامن مع أزمة أخرى تمثلت برفض جزء من السياسيين في لبنان فتح علاقات مع سوريا الدولة المجاورة الوحيدة التي يمكننا أن نستفيد من اعادة تسوية العلاقات معها والمنفس الوحيد لبلدنا، مستشهداً بأقوال كان يرددها الإمام المغيب السيد موسى الصدر وتدعو لأفضل علاقات معها.
وإذ يرى فاضل أن من المعيب أن يقول البعض أن رئيس حكومة لبنان أو وزيراً أو نائباً ما لا يريدون التوجه إلى سوريا، ومن المعيب أكثر أن نبقى مرتهنين لقرارات خارجية، فنحن مرتبطون بواقع لا يمكن الخروج منه وهو أن المنفس البري الوحيد للبنان هو عبر الجمهورية العربية السورية ومن هذا المنفذ يمكن لنا أن نصل إلى حل نهائي ومستدام لأزمة التصدير في قطاع الموز وبقية القطاعات الإنتاجية.
وحول الحل الذي تم التوصل إليه هذا العام يشير فاضل إلى أن ذلك لم يتم بكلمة أو اثنتين أو لخدمة فريق وطائفة دون أخرى فالزراعة لا دين أو انتماء سياسي لها، بل جاء بعد مناشدات لم يتلقفها إلا من يعنيهم حقاً أمر الزراعة التي يعتبرونها أهم مقومات الصمود في بلدنا، متوجها بالشكر للرئيس السوري بشار الأسد الذي تعاطف مع شعبنا ولسماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ودولة الرئيس نبيه بري ووزير الزراعة حسن اللقيس الذين سعوا من أجل انجاز حل لهذه القضية.
وعلى طريق دمشق بيروت وفود واتفاقات محبة وتلاقي في ظل انشغال البعض بتلميع صورته أمام أرباب أمره وإمعانه في إعطاء الضوء الأخضر لتعقيد الأزمة أمام شعب أكل الحرمان آماله حتى الرمق الأخير، وفي حين كانت حكومة لبنان تتحول إلى حكومة تصريف أعمال كان هناك من يعمل على تصريف الإنتاج اللبناني متخطياً حدود الحصار الذي رسمته القرارات الخارجية منذ بداية الأزمة السورية، إذ يكشف رئيس نقابة مزارعي الموز والحمضيات المهندس سليم مراد عن تفاصيل الحلحلة التي مر بها ملف التصدير هذا العام، فيشير إلى أن بداية الحل كان عبر وزارة الزراعة اللبنانية التي راسلت السفارة السورية في بيروت وأبلغتها رغبة لبنان بتصدير الموز إلى الأسواق السورية، ليتبعها اتصالات ومتابعات مع وزير الاقتصاد السوري المعني بهذا الملف، إلا أن معوقات عدة برزت على طريق الحل في ظل نضوج كمية كبيرة من الموز في السهول، ما حتّم تسريع الوصول إلى المطلوب واتخاذ قرار يناسب المزارع اللبناني والأسواق السورية.
ويضيف مراد، هنا تدخل الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله لحل هذه القضية مع الرئيس بشار الأسد لتبدأ الحلحلة بشكل فعلي ونهائي، فتشكل وفد من جهاد البناء ونقابة مزارعي الموز والحمضيات وتوجهوا إلى دمشق لمفاوضة وزير الاقتصاد السوري بناء للتوجيهات المعطاة له في هذا الخصوص وقد جرى الاتفاق على آلية بدأ تطبيقها وتنص على اعطاء اجازات للمصدرين اللبنانيين لتصدير الموز إلى سوريا تتضمن كل اجازة تصدير خمسماية طن يمكن أن تتوسع عند الحاجة حتى نصل إلى كامل الكمية المطلوب تصديرها والمتراوحة بين خمسين وخمسة وسبعين ألف طن.
وإذ يشكر مراد القيادة السورية التي فتحت أبوابها أمام انتاجنا في موقف تضامن ودعم عودتنا عليه، يأمل أن تكون الأسواق العراقية وأسواق بقية الدول العربية مفتوحة أمام المصدرين والمزارعين اللبنانيين في حين أن ذلك لن يتم إلا من خلال التفاهم بين حكومتي لبنان وسوريا “بوابة العبور” إلى الأسواق العربية ما سيعزز الإقتصاد الوطني الذي بات على شفير الانهيار.
العهد الاخباري
Views: 1