البلدة التي من بشر وذكريات
ناديا سوقية
رائحة الفول والحمص عند الثامنة صباحاً هي ما يلف وسط مركز مدينة القطيفة، لتمشي قليلا إلى بلديتها المزينة بصف سيارات الأجرة ومقابلها مشهد التعتير الذي يلاحق طالب الجامعة لأنه سيجرب رياضة الحصول على كرسي في سرافيس القطيفة المتجهة إلى دمشق.
رائحة الفلافل ليست إعلانا للصباح، فقبل حاسة الشم كان طلاب المدارس قد أعلنوا بداية يومهم فأتوا من كل حدب وصوب إلى مدارسهم.
كلما أكملت طريقك غربا ستلحق برائحة الخبز ومناقيش الزعتر والفطائر من أفران الصاج مرورا بفرن النجمة ثم الفرن الآلي.
وإذا ما ملت شرقاً، إلى القطيفة القديمة، هناك المشهد يختلف: بيوت الخشب والطين، ومشهد كولبة الخبز، وجامع ساحة النهر المجدد بواجهته الرخامية الفخمة (والمديون بسببها)، وفتح المحلات ورشرشة المياه، وبدء الصبحيات النسائية بين الجيران.. هذا هو النصف الممتلئ من الكأس.
ليس في حارات القطيفة شمسيات معلقة، ولا جمعة رجال يلعبون الطاولة وكافيه تفوح رائحة القهوة الساخنة والمعسل منها، ولا مطاعم يؤكل الحمص والمسبحة على أرصفتها بصحون فخار، ولا بائعو أنتيكا، ولا مكان مرتفع، كجبل مثلاً، يمكن لأي شخص أن يعتليه ليرى الناس من أعاليه.
لا يوجد في القطيفة بائع سحلب، بل يوجد بائع تمر هندي يرتدي زياً شامياً يظهر بالأعياد والمناسبات تقريباً، وبائع فول نابت عريق يتخذ نفس الزاوية منذ أخذ رخصة عربته.
وفي القطيفة بلدية وللبلدية باب يطرقه المواطنون لتعبئة المازوت ولإصدار بطاقة ذكية تحل مشاكل الطوابير الأبدية. في القطيفة محكمة تثبت الزواج وتوقع الطلاق وترفع الآجار وتعطي الحقوق وتعطل عطلتها القضائية كأي محكمة سورية.
وأيضاً في القطيفة مخفر ومركزان ثقافيان، أحدهما في البلدة والثاني في مساكنها العسكرية، ومسرح المركز الثقافي قد نشط حديثاً، وصار في القطيفة فرق مسرحية وموسيقية عديدة.
وفي القطيفة مستشفى وطني ومستوصفان، عسكري ومدني، وأيضا خمس كازيات، لكن مدافئ بيوت القطافنة لم تجهز بعد إذ أن خزاناتهم فارغة.
كل الخدمات التي ذكرتها مبعثرة، حتى المصرف الزراعي بعيد جغرافياً عن المصلحة الزراعية التي يجاورها مسلخ، وهي في آخر المدينة أول مزارع السقي التي حولوا إليها مياه الصرف الصحي فأصبحت رائحتها هي هويتها.. ولم يبدأ النصف الفارغ بعد.
في القطيفة فرن آلي يخبز كل شيء مع الخبز، حتى أن لون الخبز يحيرك ما بين الأسمر والأسود، ليس بنياً بقدر ما هو رماديا، يمتلئ بعناصر من صلب الأرض، ليعود فتاتاً على عربة أحد الأطفال جامعي الخرداوت لدكان “سمعان الخربة” الذي لا يخسر أبداً.
في القطيفة مكتبتان بلا جرائد، وخصوصا جريدة “الأيام”، وإن كررت سؤالك سيجيبك بسؤال: بدك بالكيلو؟.
في القطيفة صالونات الحلاقة للسيدات، كثيرة حيث لكل سيدة وكنتها صالون.. وفيها أيضا سوق مشهور بسوق النسوان تجد ما يختاره التجار من ألبسة نسائية بسعر مضاعف عن العاصمة بحجة الحواجز والدولار!.
في القطيفة قلعة لا أعرفها وجامع أثري وحمام سوق وخان ولا يعلم شباب هذه المدينة شيئا عنها، إلا روايات الأجداد ذات الألفة والمحبة والعطف على عابر السبيل ومواسم الزبيب والدبس والكشك التي لم تعد تزين أسطح بيوتها اليوم، فلا الدار دار ولا الجيران جيران.
فالقطيفة ذات الـ ٢٤ ألف نسمة، والتي تبعد عن دمشق ٤٠ كم، لم تخلع ثوبها الريفي بل لبست طربوش المدينة على جلابية قلمونية لتبقى حاملة هويتها الريفية البسيطة بتطورها العمراني الذي غير سماتها السابقة، فطغت عماراته المرتفعة على وجود بيوت الطين ذات الأسقف الخشبية من شيح البلان وشجر الحور والسنديان المنقرض منها اليوم.
هذه الأسقف (الأسطح) البسيطة هي التي كانت تزين في مواسم الخير، فتفرش بالعنب ليصبح زبيباً، وتعلن أفراح مواسم الكشك الذي” يمعك” عليها مع أغاني قلمونية، وأيضا كانت تشهد موسم سلق القمح المزروع في أراضيها وفرش البرغل و”نسفه” وإعداد “الفريكة”.
كل ما سيحكى عن القطيفة، لا بد أن يرفق بـ “كان”، وبدون أخواتها، لأنها ليست كما كانت.
رجل من القطيفة
يرتشف كأس الشاي بيده الخشنة، وكأن التاريخ كتب في كل شق منها مرحلة تاريخية، الحاج أبو يحيى (٧٧ عاماً) قطيفاني الأصل، من حاراتها العريقة، عاش الاستقلال طفلاً، وسمع أخبار الانقلابات، وشهد الانتخابات المتكررة، عندما كانوا يصرفون من المدارس لتُجرى الانتخابات فيها، وشهد الوحدة يافعاً محمولاً على كتف أحدهم هاتفا لها، وشاباً في حرب تشرين، وقبلها حضر أول مؤتمر للفلاحين عام ١٩٦٤.. هو يقول.
فلاح عانى من الزراعة البدائية، كما كل فلاحي القطيفة، معتمدين على المحراث والحيوانات بأرض كانت غوطة خضراء تمتلئ وديانها وهضابها تيناً وجوزاً وإجاصاً، وسهولها عنبا.
لم يعد الحال نفسه، فالجفاف البيئي والعاطفي والحكومي سيد الصورة، فالقطيفة رغم أنها “أتيرة الرومان” و”ثنية العقاب” لم تنل آثارها أي اهتمام من وزارة الثقافة ولا السياحة، ولا من الحكومة ككل، فلا قلعتها تُعرّف، ولا قناتها الرومانية تذكر، ولا خانها (خان نور الدين الشهيد) يفتح، ولا أضواء تُسلط على جامعها التاريخي (جامع سنان باشا) أو على حمام السوق المجاور له. أما نهرها، ومثل حال كل خيراتها، فقد جف.
“ذهب الحمار بأم عمرو … فلا رجعت ولا رجع الحمارُ”.. هذا ما قاله أبو يحيى عن جفاف النهر الذي كان يغذي أراضي القطيفة والقرى المجاورة، محركاً عدة طواحين، فراح النهر بطواحينه وطوى تاريخاً ممتلئاً بالحفلات التراثية، من خميس البيض إلى دبكات النهر والحضرات الدينية.
كل تلك الطقوس كانت في ساحة النهر التي لا تزال تحمل الاسم ذاته رغم عدم وجود النهر ولا شيء يذكر به غير هذه القصص المروية وطفولة أجيال الستينات والسبعينات.
فمن يقنع جيل اليوم، أو حتى أجيال التسعينات والثمانينات بهذه الروايات والحكايا إذا كان الواقع لا يشبهها؟.
لم تعد القطيفة تشتهر بما ذكر سابقاً، بقدر شهرتها بارتباط اسمها بحاجز القطيفة، هذا الربط أفرزته سنوات الحرب، ليبقى اسم القطيفة مقروناً بحاجز عسكري لا بـ “أتيرة” ولا بمدارسها وأعلامها ومثقفيها وطبيعتها.. فمسمار الحرب، الذي دق في ذاكرة السوريين، كان أقوى من حجارة الرومان ومعركة ثنية العقاب وحتى نور الدين الزنكي بجلالة قدره.
صحيفة الأيام
Views: 2