شام الحريري – الأيام
كان خدوماً وودوداً، ومع ذلك فقد شكّل وسيلة الأهل المثلى لترهيب أبنائهم إذ كان هو الرجل الذي يخافه الأطفال.
كنت مثلهم، بل ربما أشدهم خوفاً منه، إلى ذلك اليوم الذي سمعت فيه من جدتي كلمات غريبة عنه. رأت بعض أطفال القرية يرمونه بالحجارة ويهربون، فصرخت بهم قائلة:”إياكم أن تلحقوا الأذى بمنير، منير مبارك يا ولاد والملائكة رح تلحق يلي بزعلوا”..وكان لا بد لهذا التحذير الماورائي القاطع أن يصدم الطفلة التي كنتها، ولكنه سرعان ما أيقظ عقلي وحواسي، ومنذ تلك اللحظة صرت أراه ذلك الكائن الشفاف المحفوف بالملائكة. كما صرت قادرة على التقاط تفاصيل الحزن في وجهه ونظراته، وعلى إدراك عمق الوحدة التي تغلف حياته.
كان منير يسكن تحت شجرة رمان كبيرة تتوسط قريتنا، لا أحد يعرف من أين جاء ولا من هم أهله، كل الذي يعرفونه أنه نما وكبر مع هذه الشجرة.يقولون إن طعم الرمان من هذه الشجرة ليس له مثيل، إذ حلت بركة منير عليها، وفي يوم لم أستطع فيهمقاومةشهيتي للرمان،تجرأت على كسر ما تبقى من خوفي، وضربت مثلاً في الشجاعة أمام أعين أولاد الحي، اقتربت من تلك الشجرة وطلبت من منير أن يعطيني إحدى تلك الرمانات الملقاة على الأرض (لم أكن أجرؤ على طلب رمانة من أعلى الشجرة)، كنت أتوقع منه أن يقوم بطردي أو أن يلحق بي ويؤذيني،بل إن رواسب صورته القديمة دفعتني إلى التفكير بما هو أشد هولاً من ذلك.. كنت أشعر بأنفاسي تتقطع وصوتي يرتجف وخفقات قلبي تتسارع، لكن الذي حدث أن صوتي خرج على الرغم من محاولاتي للتراجع عن هذه الخطوة المجنونة. رأيت منير ينهض من مكانه،كانت عيناي مسمرتين على وجهه، ذهب وأحضر لي إحدى تلك الرمانات المتساقطة الى جانبه، كان يتقدم نحوي بسرعة فيما أنا أحاول التراجع خطوة إلى الخلف،ها هو الآن أمامي يحمل بيده المتعبة رمانة. كانت هذه أول مرة أراه فيها عن قرب. كان لعينيه بريق لم أره من قبل، وكنت ارتجف وبصعوبة مددت يدي نحوه،أخذت الثمرة منه وركضت مسرعة،لكن لسبب لا أستطيع الآن تفسيره توقفت فجأة، استجمعت قواي وعدت نحوه، كان ينظر إلي بعينين مليئتين بالدموع، مددت يدي نحوه لأصافحه وأشكره، جلس فجلست بالقرب منه، قام بفتح الرمانة وبدأ يعطيني من حباتها، كانت جملته التي لازمتني في كل مرة أفكر فيها بأكل الرمان هي أشبه بآية قرآنية حفظتها عن ظهر قلب:”إياك ورمي أي حبة من حبات الرمان فإحدى تلك الحبات من الجنة”.
والحقيقة أن منير نفسه بدا لي، في تلك اللحظات، كائناً قادماً من الجنة. لقد أصبح صديقي الأقرب،وصارت زيارته عادة يومية لا أتهاون فيها، وكذلك أطفال القرية الذين تجاوزوا كل أوهامهم التي زرعها الأهل في أذهانهم. لقد اختفت تلك القسوة التي كنا نجابه بها منير، وصرنا ننظر إليه بعيوننا نحن وليس بعيون أهالينا، أما عن حبات الرمان فصرت أنظر إليها بتمعن لأبحث عن تلك الحبة السماوية.
منذ فترة، وكانت الأيام الغبراء قد أنستني طفولتي ومنير والرمان، تلقيت اتصالاً من أختي تخبرني فيه بوفاة منير. بعد أن تجاوزت صدمتي الأولى تذكرت أننا في موسم الرمان،فعادت إلى ذهنيصورةتلك الشجرة الوارفة المثقلةبحملها، ومنير يجلس تحتها يجمع الثمار ويقدمها لنا.
بالطبع، يوجد رمان في دمشق التي انتقلت إليها بداعي العمل، لكن لم يكن للرمان هنا ذلك الطعم الخاص، لم تكن أي من حباته من الجنة، ذلك أن بركة منير لم تلمسها.. ولكن أين هي تلك الحبة المقدسة اليوم؟ أخشى أن يكون منير قد أخذها معه إلى حيث رحل.
الأيام
Views: 1