جرى إقرار «قانون قيصر» في واشنطن مرتين. الأولى في عهد الرئيس باراك أوباما. لكن الرئيس الأميركي الأقلّ عداء للعرب أهمله معتمداً رأي مستشاريه الذين أكدوا أنّ القانون الذي يُعرَف ــ يا للسخرية ! ــ بأنه «قانون الدفاع عن المدنيّين السوريّين» يُلحق الضرر بمواطني سورية وليس بقيادتها السياسية والعسكرية.
الرئيس دونالد ترامب، الأشهر احتضاناً للكيان الصهيوني العنصري والأشدّ عداء للعرب، تولّى للمرة الثانية إقرار «قانون قيصر» ووقعه في كانون الأول الماضي.
من المنتظر أن تعلن إدارة ترامب في 17 حزيران الحالي المباشرة في تنفيذ القانون برزمة عقوبات اقتصادية ضدّ سورية وحلفائها. العقوبات تستهدف الأفراد والحكومات والشركات والمؤسسات التي تتعامل او تقدّم ايّ تمويل او مساعدة لسورية، وتستهدف بصورة خاصة الصناعات السورية لا سيما تلك المتعلقة بالبنية التحتية والطاقة والصيانة العسكرية. كما يقضي القانون بملاحقة ومعاقبة كلّ الأفراد والكيانات التي تتعامل مع الحكومة السورية وأجهزتها العسكرية والاستخبارية، إضافةً الى كلّ مَن يقدّم لها الدعم المالي بصيغة قروض او ائتمانات تصدير او توفير سلع وخدمات ومعلومات.
أحكام القانون تشمل، اذاً، كلّ المتعاملين مع سورية، حكومات وشعوباً وافراداً. غير أنّ لبنان، حكومةً ومؤسسات وشعباً وافراداً، يبدو اشدّ المتضررين. ذلك ان سورية هي الدولة الوحيدة التي تحيط بلبنان من كلّ الجهات تقريباً، ويتعامل شعبا البلدين ويتبادلان المنافع والسلع والخدمات بوتيرة يومية، فضلاً عن انّ معاناة لبنان الانهيار الإقتصادي وتدني سعر صرف الليرة اللبنانية في الآونة الاخيرة ضيّقا فرص تصدير منتجاته الصناعية والزراعية الى سورية كما الاستيراد منها بأسعار أفضل من سائر الدول.
فوق ذلك، ثبت من دراسة أجرتها الحكومة السورية بعد تدني سعر صرف الليرة السورية أنه، خلافاً لما يروَّج له إعلامياً، فإنّ التهريب بين البلدين تميل كفته الى الجانب اللبناني من حيث قيمة وتوافر نقل البضائع والسلع لا سيما بعد تدني سعر صرف الليرة اللبنانية وشحّ الكثير من المستوردات من دول أجنبية.
لماذا تمارس الولايات المتحدة كلّ هذه الضغوط على سورية والمتعاملين معها؟
لأنها، بحسب حديث مبعوثها للشؤون الإيرانية براين هوك، تريد «رؤية جميع القوات الإيرانية وجميع القوات الأخرى الخاضعة لقيادتها تخرج من سورية».
انه، اذاً، مطلب «إسرائيل» القديم الجديد. فهي تحاول تحقيقه عسكرياً بغارات جوية وصاروخية تستهدف مواقع تواجد ضباط وفنيين استشاريين إيرانيين في سورية، كما تستهدف مواقع عسكرية ومؤسسات علمية لا وجود لغير السوريين فيها. وبموازاة الجهد العسكري العدواني الإسرائيلي، تحاول أميركا بالعقوبات الاقتصادية محاصرة سورية ومعاقبة حلفائها والمتعاملين معها لحملها، بحسب ما أعلنته السفارة الأميركية في دمشق، «اتخاذ خطوات لتنفيذ حلّ سياسي وإلاّ تواجه المزيد من العقوبات والعزلة».
الحقيقة انّ أميركا، ومن ورائها «إسرائيل»، تريدان لسورية اكثر من العقوبات والعزلة. انهما تبتغيان تفكيك سورية الى جمهوريات موز على أساس اثني او قبلي او طائفي. واذا تعذّر ذلك فهما تريدان، بحسب مبعوثها الخاص الى سورية جيمس جيفري، «تغيير سلوك النظام بغية وقف تأمينه مأوى للمنظمات الإرهابية (أيّ تنظيمات المقاومة!) وعدم تأمينه قاعدة لإيران لبسط هيمنتها على المنطقة».
كيف يمكن أن يكون ردّ سورية ولبنان على «قانون قيصر» وما يرافقه من تدابير عقابية؟
لسورية تجربة قديمة في مقاومة الحصار والعقوبات الأميركية المفروضة عليها بتعاونها الوثيق مع إيران وروسيا. صحيح انّ إيران تعاني حصاراً وعقوبات أميركية مزمنة كما تداعيات جائحة كورونا، لكنها تبدو مع ذلك قادرة على مدّ يد العون لسورية كما كانت تفعل دائماً.
روسيا أعلنت انها وإيران والصين تعارض خطوة ترامب العقابية الأخيرة. أكثر من ذلك، يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتن معنياً باستقرار سياسي في سورية يمكّن حكومتها من إعادة الإعمار والبناء بعد حرب الغرب الأميركي والأوروبي عليها المستمرة منذ أكثر من تسع سنوات. ويتردّد في موسكو أن بوتين معني بتمكين سورية من التغلّب على دفعة العقوبات الأميركية الجديدة لأنه مهتم بأن تكون لروسيا حصة الأسد في عملية إعادة إعمار سورية التي تبلغ تكلفتها أكثر من 400 مليار دولار.
لبنان يبدو أدنى استعداداً من جارته لمواجهة الهجمة الصهيوأميركية، ذلك أنّ انهياره الاقتصادي المريع جرّه الى التماس العون من صندوق النقد الدولي. هذا التوجّه نحو الصندوق يحدّ من هامش المناورة لديه كما يحدّ من إمكانية اتخاذه مبادرات جريئة مخافة إزعاج أميركا ذات النفوذ الكبير في صندوق النقد الدولي نتيجةَ مشاركتها بنسبة تقارب 16 في المئة من رأسماله. مع ذلك، فإنّ المتضرّرين من «قانون قيصر» وانعكاساته، لا سيما حزب الله وحلفاؤه الأقوياء سياسياً وشعبياً والحريصون على حماية أنفسهم، سيضغطون على الحكم والحكومة لرفض الانصياع لأحكام «قانون قيصر» داخلياً، وتفادي تنفيذ أحكامه خارجياً بسبب حاجة لبنان اقتصادياً الى سورية أكثر مما هي بحاجة اليه.
في هذا المنظور، يستطيع البلدان مجتمعَين او منفردَين اعتماد المبادرات والتدابير الآتية:
أولاً، التنسيق الهادف بينهما لكونهما يواجهان الصعوبات والتحديات السياسية والاقتصادية نفسها لا سيما تلك النابعة من الولايات المتحدة المنحازة دائماً لـِ «اسرائيل».
ثانياً، تفاهم حكومات سورية والعراق وإيران ولبنان، على فتح جسر برّي من إيران الى لبنان لتسهيل النقل والتبادل والتعاون الاقتصادي في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الصهيوأميركية.
ثالثاً، تنظيم المعابر البرية بين لبنان وسورية على نحوٍ يخدم هدفيْ التعاون والتبادل بينهما مع الحرص على قمع أعمال التهريب المخالفة للقوانين والأنظمة النافذة.
رابعاً، الانفتاح الاقتصادي على الصين وروسيا وإيران التي تبدو مستعدة للإسهام بكثافة في مشروعات الإعمار والإنماء في دول المشرق العربي.
خامساً، تسريع مشروع إقامة سوق مشتركة بين لبنان وسورية والعراق والأردن، وتنشيط توجّه الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا الى إنشاء مصرف عالميّ مختص بالتمويل الإنمائي بغية التحرّر من ضغوط الولايات المتحدة على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتدخلها في قراراتهما.
يبقى أملٌ كبير بإخفاق ترامب في تجديد ولايته علّ أميركا تصبح أقلّ عداءً للعرب والمستضعفين!
*نائب ووزير سابق.
Views: 8