بيروت تضررت والعالم أجمع تعاطف ويساعد. المهم اصلاح الأضرار والانطلاق الى مرحلة أخرى قريبا، أي مرحلة فتح كل المدارس والجامعات والبدء بالتعليم عن بعد وقرب. يجب اكمال ترميم المستشفيات والسماح بالعودة الى الوضع التاريخي، وضع لبنان كمستشفى الشرق. الأموال الكاملة للترميم غير متوافرة بسبب التقصير الحكومي والرسمي فيما يخص القيام بالجهود الكافية المناسبة. التمويل من الداخل اللبناني صعب وغير كاف لأن اللبنانيين بأكثريتهم غير قادرين وقلقين. التمويل الخارجي يتطلب الجهد من قبل الجهات الرسمية، وهي غائبة وغير جاهزة أو مؤهلة. الترميم الممول من شركات التأمين لم يحصل بعد بانتظار نتائج التحقيق الرسمي بشأن الانفجار لتبدأ عندها الشركات بتنفيذ العقود الموقعة مع الزبائن. المهم أن تكون شركات التأمين مرتبطة بعقود اعادة التأمين، والا شهدنا افلاسات بالجملة لا يستطيع أن يتحملها لبنان.
التحديات كبيرة ليس فقط في السياسة، وانما أيضا في الكورونا والنقد والانفجار الكارثي الذي ضرب المعنويات كما المادة في غياب القدرة على التصحيح والترميم. المهم أن تعود الحياة الى كل القطاعات وان يكن ذلك صعبا في ظل المعنويات المتدنية واستياء اللبنانيين من عموم السياسيين. العالم كله مهموم بأوضاعنا أكثر من السياسيين اللبنانيين الذين يعملون ببرودة تدخل في كتاب «غينيس». اداء السياسيين اللبنانيين لا يظهر أنهم موجوعون كما الشعب المتضرر. هذا يدعو للاستياء، لا بل أنه مفاجأة مزعجة.
كانت بيروت تعاني الكثير قبل الانفجار، وربما هذه الكارثة التعيسة تسمح ببناء بيروت جديدة وبتقديم خدمات عصرية مطلوبة منذ زمن تلبي طموحات المواطنين. قال «أفلاطون» في «الجمهورية» ان كل المدن، كبيرة كانت أم صغيرة، تقسم الى جزأين قسم للفقراء وآخر للأغنياء. طبعا في بيروت هنالك أحياء للميسورين وأخرى لما دون، ولا بد من تحسين أوضاع الأحياء الفقيرة. مجددا قبل الأموال نحن بحاجة الى قيادات تفكر بالمشروع المدني الجديد الذي يطور بيروت لعشرات السنين القادمة.
في الماضي كانت المدن تحتوي على نشاطات اقتصادية وسياسية وثقافية كبيرة. نقلت بعض النشاطات الاقتصادية الى أماكن أخرى في الضواحي حيث المساحات تناسب أكثر الصناعات والمجمعات التجارية الكبيرة. أما النشاطات السياسية، فنقلت الى مدن جديدة كواشنطن في الولايات المتحدة وبرازيليا في البرازيل وغيرهما بحيث يسمح للمدن الكبيرة كنيويورك وساو باولا بأن تتطورا بهدوء بعيدا عن الضغط السياسي. في الثقافة، نقلت بعض النشاطات كالجامعات الى خارج المدن الكبيرة. في لبنان بنيت كليات وفروع جامعية في المناطق كافة لتخفيف الضغط عن العاصمة وعدم فرض انتقال الطلاب اليها.
عانت بيروت خلال السنوات الماضية من مشاكل عدة نوجز أهمها:
أولا: زحمة سير خانقة في معظم أوقات النهار وحتى الليل. التأثير كبير على الأعصاب كما هدر الوقت مكلف. التلوث يبقى ضاغطا في غياب المعالجات الجدية.
ثانيا: توسع فجوة الدخل والثروة بين الأحياء والناس في مدينة متوسطة الحجم مقارنة بالمدن الكبرى كباريس ولندن وطوكيو ونيويورك. مواضيع الفقر والتردي في البنية التحتية وسلامة الأبنية والمشاكل الاجتماعية المختلفة ليست غريبة عن بيروت والمدن اللبنانية الأخرى.
ثالثا: المشكلة الأمنية وان لم تتفاقم بعد كما هو الحال في المدن الغربية الكبيرة كشيكاغو ولوس أنجلس وغيرهما، الا أن المشكلة قائمة وكم سمعنا وشاهدنا تعديات مؤلمة على مواطنين وأملاك ومصارف وشركات خلال الليل وحتى النهار. السرقات ترتفع في زمن الضيق والتشنج والقلق، كما العنف موجود ومتزايد داخل المنازل وفي الأمكنة العامة.
رابعا: تكلفة السكن شراء وايجارا حيث الأسعار تفوق امكانيات اللبناني. أما الايجارات السكنية القديمة التي ثبتت الايجار لعقود، فعقدت الموضوع السكني ورفعت قيمة الايجارات الجديدة وضيقت امكانيات التأجير لسنوات طويلة. مجددا غياب الدولة يصعب الحياة على اللبناني.
تعاني بيروت اليوم من مشاكل ليست فريدة لها، بل تشترك معها كل المدن الكبيرة. مشكلة المدن اليوم هي مشكلة العصر بل مشكلة العالم أجمع، ولا بد من أفكار حلول للتحسين والتقدم. ما هي الأفكار التي نطرحها للنقاش العام لبيروت تحديدا؟
أولا: يجب اعادة التطور التكنولوجي الى بيروت أي بناء مراكز بحوث تمكن الطلاب والمهنيين من الاجتماع والتجمع لبحث طرق ووسائل التطور. المطلوب أن تكون بيروت الجديدة مصدر التجديد والتقدم الاجتماعي والاقتصادي كما كانت في السبعينات، أي تضج بالحياة والحوار والنبض العلمي والحضاري والثقافي.
ثانيا: اللبناني يفكر اليوم في الهجرة والحقيقة أن القطاع العام غير مهتم. يجب أن تبقى بيروت مركز العلوم مما يسمح للكفاءات في كل القطاعات بالتطور والتعلم من بعضهم البعض تماما كما كان الحال في السبعينات. «سيليكون فالي» لبنانية ممكنة جدا وهنالك محاولات جيدة تقام اليوم في العاصمة لكنها غير كافية للاقتصاد ككل.
ثالثا: يجب أن تعود بيروت مركزا للحوار والتسامح وليس مركزا للعنف الكلامي والمواجهات السياسية غير الديموقراطية. للبناني الحق أن يختلف فكريا وسياسيا مع اللبناني الآخر، لكن التخوين مرفوض. رحابة الصدر مفقودة ويجب أن تعود.
كي تعود بيروت الى ماضيها بل تتطور لأن المنافسة مع المدن والعواصم الأخرى قوية حتى عربيا واقليميا. الوقت ليس لصالحنا في الظروف التي نعيش فيها وضمن سوء الاداء العام.
أولا: لا بد من تعديل الأنظمة المدنية بطريقة تسمح بتحسين التنقل داخل المدن وتحسن نوعية الحياة. للأنظمة الضرائبية دور كبير في هذا الاطار بحيث تشجع الاستثمار في أمكنة معينة مناسبة للتطور المدني.
ثانيا: البنية التحتية تحتاج الى تطوير كبير بدأ من الكهرباء الى المياه وصولا الى المطار والمرافق العامة. قبل التفكير في بناء مطار مدني ثان، لا بد من تجهيز مطار بيروت وجعله مطارا اقليميا مميزا خاصة وأن المطارات الأخرى القريبة كما البعيدة تسبقنا بخطوات. لا ينقصنا فقط التمويل وانما الارادة والجدية، وأن نعرف ماذا نريد وكيف نطور. قطاع النقل في بيروت غير كاف ولا بد من نقل عام يسمح للمواطن العادي وللطلاب بالتنقل بتكلفة مقبولة.
ثالثا: لا بد من قانون جديد للايجارات السكنية وغير السكنية يعطي الفريقين الحقوق الكافية والعادلة لمدة طويلة. يمكن نسخ احدى قوانين الايجارات الغربية الناجحة، فلما لا تنجح عندنا؟ المطلوب الارادة في التحسين وهي غير ظاهرة اليوم وتؤخر البلد.
رابعا: يجب الاستثمار في المواطن وفي الجغرافيا ونتفاجأ عندما نزور المدن الرئيسية الكبرى كيف تتطور وكيف يتطور المواطن فيها في العلم والثقافة والأخلاق. وجود مدن حية مهم جدا للتطور، هكذا كان وضع بيروت قبل 1975 ويمكن أن نعود اليه اذا توافرت الارادة.
هنالك فوائد كبرى للعيش في المدن أهمها وجود كافة الكفاءات والخدمات في مساحات قريبة. يجب أن تسمح المدن للفنانين والمخترعين والحرفيين بأن يطوروا كفاءاتهم التي تمثل الحياة. طبعا هنالك مساوئ في المدن تبدأ من التلوث الى الضجيج والتكلفة المعيشية وغيرها، لكن الخيار يبقى دائما للمواطن. المهم الحفاظ على نوعية الحياة في المدينة والريف. النوعية مفقودة في لبنان وتؤكدها الرغبة القوية في الهجرة.
Views: 1