أظهرت روسيا استعدادها للمضي بأخذ دورها كدولة عظمى مستعدة لتحدي الولايات المتحدة بقدر ما يستلزم هذا التحدي. ولم تعد مستعدة للعودة لسبات عميق كما حدث بعد «البيريسترويكا» عام 1990 إذ ان قرارها بالاستيقاظ والعودة إلى الساحة العالمية بدأ في سورية حين أرسلت قواتها العسكرية بأذرع مختلفة لحماية مصالحها وحلفائها ومحاربة الإرهاب.
وها هي اليوم ترسل مدرعاتها الديبلوماسية إلى دمشق، إذ أرسل الرئيس فلاديمير بوتين نائب رئيس الحكومة يوري بوريسوف ووزير الخارجية سيرغي لافروف على رأس وفد اقتصادي – عسكري لتنظيم المرحلة المقبلة وتحضير 40 اتفاقا في جميع المجالات التي تناسب البلدين.
وهذه الخطوة لها دلالتها المميزة لأنها تأتي بعد قرار الإدارة الأميركية بفرض أقصى العقوبات على سورية تحت عنوان «قانون قيصر» وترسل رسالة واضحة لأميركا أن منطقة نفوذها وحلفاءها لن يتركوا وحدهم في مجابهة مباشرة مع واشنطن.
في بلاد الشام، تجتمع التناقضات الإقليمية في مكان واحد. فالقوات الأميركية والروسية تتواجدان في بقعة صغيرة مع أهداف ومصالح وأسباب تواجد مختلفة. فروسيا تسعى لوحدة سورية لأنها منطقة نفوذ لها تريد لها الاستقرار. وأميركا تعمل لمنع تدفق خزان الغذاء في المناطق التي تحتلها وخزان النفط والغاز من أن تستفيد منه بقية المناطق السورية المحررة.
وقد حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب المغادرة أكثر من مرة، إلا أن المصالح الإسرائيلية منعته من ذلك لحماية الأمن القومي الإسرائيلي والذي يتضمن مواجهة إيران و«حزب الله» والرئيس بشار الأسد من البقعة السورية التي يحتلها الجيش الأميركي.
وقد بدأت أميركا بتشجيع أكراد سورية، ليس فقط بالانفصال بل حتى بتغيير برامج الدراسة في محافظة الحسكة حيث سيطرت القوات الكردية التي تعمل تحت امرة أميركا على أكثر من 100 مدرسة واجبرت التلامذة على دراسة اللغة الكردية وكتب معدلة لا تتفق مع المنهاج الدراسي السوري العام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أميركا أحضرت حلفاء لها لتدريب القوات العربية الموجودة في المناطق الكردية خصوصاً أن هناك نفوذاً واضحاً بين القبائل العربية والأكراد في المنطقة. وتتجه أميركا نحو إنشاء نوع من «الصحوة» السورية موالية لها.
إلا أن هذه التجربة التي نجحت في العراق تحمي القوات الأميركية ما دامت هذه القوات باقية في البلاد وتتقاضى الرواتب المتواصلة. إلا أنها لن تلبث أن تعود إلى كنف الدولة حين مغادرة قوات الاحتلال.
وقد حاول الأكراد لي ذراع تركيا بقطعها الكهرباء (بسبب وجود سد الأسد في المناطق الكردية) عن المناطق التي يحتلها جنود أنقرة وحلفاؤها السوريون. فبادرت تركيا بقطع المياه عن الأكراد لمدة مقابلة إلى حين تدخلت القوات الروسية لتعيد الأمور إلى مجراها.
أما ميزة سورية فهو الحلف بين تركيا وروسيا… وأما إيران فهي تتعاون مع تركيا في مجالات إستراتيجية ولكنها لا تتفق معها في سورية مما يعقد مشهد الشرق الأوسط للمراقب إلا إذا أخذ كل دولة ومصالحها على حدة وكل تحالف أو خصومة من مناطق ودول المنطقة بشكل منفرد لأن الصداقة الدائمة والعداوة الدائمة لم تعد سيدة العلاقات التي أصبحت مرنة إلى حد بعيد.
وتحاول أميركا الطعن بالانتخابات الرئاسية السورية المقبلة من خلال منع المهجرين في لبنان وتركيا والأردن من العودة إلى بلادهم لتستطيع الإعلان أن الانتخابات غير دستورية وغير شرعية. إلا أن لدمشق حسابات أخرى ولذلك فإن تاريخ حزيران المقبل لن يتغير وستجري الانتخابات في موعدها بغض النظر عما تعترف أم لا تعترف به أميركا.
وتحاول واشنطن الدخول من باب تعديل الدستور لـ «لبننة» أو «عرقنة» سورية. فدمشق ترفض توزيع المناصب حسب الطوائف لأنها تعلمت الدرس القاسي من لبنان والعراق. فسورية تعتبر جميع السكان سوريين بينما توزع المناصب والحصص حسب الطوائف في كل مراكز الدولة اللبنانية وعلى مستوى أقل في العراق.
وقد حاول موفد الأمم المتحدة الأول الأخضر الإبراهيمي ومن بعده ستيفان دي ميستورا ترسيخ هذه المعادلة من دون أن يكتب لهما النجاح. وتالياً فإن اجتماعات إعادة كتابة الدستور أو تعديله أصبحت أكثر مرونة خصوصاً بعد أن أدركت المعارضة التي خسرت المعركة أنها ليست في موقع فرض الشروط بل المفاوضة على تعديل وتحسين الدستور بما يناسب جميع الفرقاء ومن دون إعطاء أي تمييز للطوائف او للإثنية العرقية، وذلك لإبقاء الدولة السورية موحدة. ولا يوجد جدول زمني للاتفاق على الدستور الذي يمكن أن تستمر مباحثاته إلى ما قبل أو بعد الانتخابات الرئاسية.
وتدفع روسيا باتجاه تعديل الدستور بما يرضي أكثر – وليس جميع – الفرقاء ليتسنى لها مطالبة تركيا من بعدها ببدء التحضير للانسحاب بعد أن يختفي أو يتضاءل الخطر الأميركي.
فسورية أعلنت العداء لتركيا، حليفة روسيا وإيران. إلا أن الوجود التركي – على الرغم من كونه لاحتلالاً – يمثل توازنا في وجه الانفصاليين الأكراد الذين يختبئون خلف القوات الأميركية المحتلة. وتالياً فإن موسكو لا تستطيع الضغط على تركيا بالانسحاب إلا حين ينتهي النقاش ويصل الأطراف إلى دستور جديد يعيد كل المهجرين إلى بلادهم أو على الأقل من يرغب بذلك.
وتبقى إدلب و«حراس الدين» حيث توجد «القاعدة» و«داعش» في تعايش إلا أن أحد أهم أهداف روسيا هو القضاء على هؤلاء. وبعد إنهاء الدستور، لن يعود هناك أي سبب لبقائهم ليتسنى للمقاومة السورية التفرغ للقوات الأميركية المحتلة في شمال شرقي سورية.
كل هذا ضروري لروسيا لتؤمن الاستقرار في بلاد الشام التي تنوي البقاء فيها لعقود وتستثمر مشاريع وبنية تحتية وتفرض الأمن والاستقرار وتضرب بعرض الحائط العقوبات الأميركية مهما تزايدت. لقد توصلت روسيا إلى تكامل عسكري مع الجيش السوري وحلفائه واليوم تسعى لإطلاق التكامل الاقتصادي من دون أن تكون هناك ضرورة للتكامل السياسي حيث تنظم الخلافات ويتعايش معها الأطراف العاملة على ساحة بلاد الشام. ومما لا شك فيه أن روسيا لا تعلن العداء لإسرائيل. إلا أن ضرب «قانون قيصر» يوجه ضربة قاسية لإسرائيل التي كانت تتمنى سقوط حكومة دمشق وتقسيم سورية وإضعافها لتجثو على ركبتها أمام العقوبات الاقتصادية الأميركية كمحاولة أخيرة لضرب سورية.
وتالياً فإن دخول روسيا بهذه القوة الاقتصادية يقضي على أحلام إسرائيل في بلاد الشام لأن القاعدة الروسية في الشرق الأوسط وعلى البحر الأبيض المتوسط أهم من أي علاقة مع إسرائيل
Views: 5