بدأ لبنان يتلمّس ما الذي يعنيه فعلاً تغيّر المناخ وانزياح الفصول. البرد هذا العام (كما في السنوات الأخيرة) يتأخر، وشهدت بداية شهر كانون الأول ارتفاعاً ملحوظاً. البلد الذي لطالما عُرف بأنه معتدل مناخياً، بدأ يشهد ظواهر تطرف مناخي كسقوط الأمطار بغزارة غير مسبوقة في وقت قصير، ما يسبّب فيضانات وسيولاً وانجرافاً في التربة ونقصاً في المياه العذبة لعدم القدرة على زيادة التخزين الجوفي.
هذه واحدة من إشكاليات كثيرة تثيرها ظاهرة تغيّر المناخ، بقيت خارج أي بحث رسمي، ولم تتناولها أية استراتيجية أو خطة، ولا قانون المياه الذي عُدّل في مجلس النواب في 30 أيلول الماضي. والأسوأ أنه بدل إجراء مراجعة عميقة لهذا الموضوع، حُصر النقاش في أمور تحاصصية (من قبيل النزاع على الصلاحيات بين وزارة الطاقة والمياه والهيئة الناظمة) على حساب إشكاليات استراتيجية كالجفاف والتبخّر والتلوّث لأهم مورد حيوي في بلد كلبنان!
بغضّ النظر عن الأرقام التي ترد في تقارير البنك الدولي حول زيادة الطلب على المياه (وهي لا تخلو من مبالغات وتهويل للترويج للمشاريع الاستثمارية)، إلا أن الإشكالية الأهم للتغير المناخي تتمثّل في آثاره السلبية على الثروة المائية. فزيادة حرارة الأرض سيكون لها تأثير بالغ على التنوع البيولوجي والزراعة وستنعكس شحّاً في المياه العذبة. ولعل توقع زيادة الجفاف هو النتيجة التي لا تقبل الشك، وهي تعني تناقصاً في المتساقطات (تتحدّث تقارير دولية ومحلية عن تراجع بنسب تُراوح بين 5% و30%)، أو ارتفاعها وهطولها بغزارة في فترات قصيرة، ما يتسبب بفيضانات ويحول دون استفادة الخزانات الجوفية منها بسبب سرعة جريانها. أضف إلى ذلك أن زيادة حرارة الأرض (بين نصف درجة و4 درجات بحسب التوقعات)، تعني سرعة في ذوبان الثلوج وتراجع المخزون الجوفي. والقاعدة في هذا المجال واضحة: كلما تأخر بقاء الثلوج فوق قمم الجبال، زادت قدرة الينابيع السطحية على العطاء، إن لناحية الكمية أو لناحية التوقيت والاستمرارية في التدفّق. وارتفاع حرارة الأرض يعني، أيضاً، زيادة تبخّر المياه السطحية. وليس هذا تفصيلاً في بلد كلبنان قرّر في سياسته غير الحكيمة إنشاء نحو 40 سداً سطحياً بما يخالف أبسط قواعد «التكيّف» مع التغيرات المناخية. فتخزين المياه في سدود مكشوفة يعرّضها لزيادة التبخر والتلوث، خصوصاً مع الارتفاع المتوقّع لحرارة الأرض.
رغم الانعكاسات الكثيرة لظاهرة تغيّر المناخ بقيت خارج أي بحث رسمي ولم تتناولها أية استراتيجية او خطة
انخفاض المتساقطات يعني زيادة السحب من المياه الجوفية، وبالتالي زيادة تملّح المياه العذبة في المناطق الساحلية القريبة من البحر. ناهيك بالزيادة الأخرى في تملّح هذه المياه، والناتجة عن ذوبان الجليد وارتفاع مستويات مياه البحار ما سيؤدي أيضاً إلى زيادة تملّح المياه الجوفية العذبة. أضف إلى ذلك أنه ليست هناك، حتى الآن، دراسات كافية حول أثر الذوبان السريع للثلوج على القطاع السياحي المرتبط شتاءً برياضة التزلج.
دراسة تأثير تغيّر المناخ على الزراعات لا تزال في بدايتها أيضاً. ورغم أن البعض يتحدث عن «إيجابيات»، كزرع بعض الأشجار المثمرة الساحلية في المرتفعات مع ازدياد حرارة الأرض، إلا أن هذا «المنطق الإيجابي» لا يأخذ في الاعتبار الزراعات التي ستتأثر سلباً بارتفاع حرارة الأرض، ولا الأمراض الجديدة التي قد تنشأ عن ذلك. وما من دراسات دقيقة بعد حول أثر تغير المناخ وارتفاع الحرارة على حياة كثير من الكائنات الحية، ولا سيما الآفات الزراعية التي يمكن أن تزداد قدرتها على الفتك بالمزروعات والتأثير سلباً في الثروة الزراعية والأمن الغذائي. علماً أن دراسات عالمية عدة أكّدت انعكاس ارتفاع الحرارة تحمّضاً على المحيطات (بسبب امتصاصها ثاني أوكسيد الكربون) وقضاءً على كثير من الأنواع البحرية وتهديد الأمن الغذائي البحري.
وللتغيرات المناخية تأثيرات خطرة على التنوّع البيولوجي عموماً، رغم أن الدراسات في هذا المجال نادرة جداً. وقد فُتح نقاش شبه يتيم حول هذا الأمر عام 2014، عندما نظّم مشروع التحريج في لبنان (LRI) المموّل من الوكالة الأميركية للتنمية، طاولة مستديرة لمناقشة نتائج دراسة حول الانعكاسات المحتملة للتغير المناخي على توزّع بعض أصناف الأشجار الحرجية، وخلصت إلى اختيار عشرين نوعاً منها أوصت بحمايتها (!)، علماً أن أي عالم بيولوجي أو إيكولوجي لا يمكنه أن يحدد الأشجار البرية الأكثر تعرضاً لتغير المناخ، ولا الفصل بين الأشجار وبقية الكائنات التي تعيش في النظام الإيكولوجي نفسه.
وهذه الإشكالية، تفتح على أخرى لا تقلّ فداحة، وهي قضية التعويض الإيكولوجي وحملات إعادة التشجير التي تلعب دوراً في «تخفيف» الانبعاثات. إذ ليس معروفاً لماذا يجري الفصل بين إعادة التشجير وحماية الغابات من الحرائق والعمران وأعمال المقالع والمرامل وشقّ الطرق العشوائية… وليس معروفاً، أيضاً، وفق أية قواعد يتم اختيار الأنواع التي يفترض غرسها والتي يفضل أن تكون بلدية وليست مستوردة أو غريبة عن النظم الإيكولوجية التي اعتادتها. كما لم تُدرس بعد آثار المزروعات الغريبة والأمراض التي تحملها معها على الكائنات المستوطنة.
اتفاقية باريس: صدّق
صادق مجلس النواب على القانون 115/2019 حول اتفاقية باريس المناخية لعام 2016. وبموجب هذا القانون، التزم لبنان بتقديم «المساهمة المحددة وطنياً» (NDC) كل خمس سنوات، وتعهد بأن يخفّض انبعاثاته 30٪ بحلول عام 2030، وهي مقسّمة بين 15٪ بشكل غير مشروط و15٪ بشكل مشروط بتلقي دعم دولي. مع الإشارة إلى أن تقديم المساهمة المحددة وطنياً ملزم، إلا أن تنفيذها غير ملزم ويعتمد على الظروف الوطنية ومستوى الطموح لكل دولة. علماً أنه تم تقديم 160 مساهمة حول العالم بينها 20 دولة عربية. فيما قدّم لبنان بصفته من الدول التي صادقت على الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ التي أُبرمت عام ١٩٩٢ بلاغات عدة للأمانة العامة للاتفاقية
بلاغات بلا استراتيجيات
بحسب بلاغ لبنان الثاني إلى الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ عام 2011 (لم تتغير الأرقام في البلاغ الثالث عام 2014)، يتوقع بحلول عام 2040 أن ترتفع الحرارة درجة مئوية واحدة على الساحل ودرجتين في الداخل، وبين 3,5 و5 درجات بحلول عام 2090. كما يتوقع أن تتراجع كمية الأمطار بين 10% و20% بحلول عام 2040 وبين 25% و45% بحلول عام 2090. وسيكون لذلك أثر بالغ السلبية على القطاع الزراعي وحياة الغابات والثروة المائية، وعلى الصحة العامة بسبب زيادة الوفيات من شدّة الحرارة صيفاً. رغم ذلك، لم تتوسّع الدراسات ولم تُغيَّر السياسات ولا سيما في محورين جوهريين: التخفيف من تغير المناخ والإجراءات المطلوبة للتكيّف على المدى البعيد مع هذه الظاهرة المدمّرة.
Views: 2