يمشي الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي “مترنّحاً”، بعدما “تجرّع” مكرهاً “كأس” الأزمة المر. تَشَارُكه المصيبة نفسها مع كل المؤسسات الضامنة الخاصة والعامة، لم يهوّن عليه حملها. فهو “أم” المضمون، و”العمود الفقري” لـ1,400,000 مواطن يشكلون ثلث الشعب اللبناني، الذي يمكّنهم من الوقوف في حال تعرضهم للمرض أو الصرف من الخدمة.
يُموّل الضمان من 4 مصادر رئيسية: مساهمة الدولة، إشتراكات أرباب العمل والعمال، توظيفاته المصرفية، ومنها عوائد سندات الخزينة. ويوزع في المقابل الإيرادات على 3 فروع: التعويضات العائلية، المرض والأمومة ونهاية الخدمة. الإختلال بين الإيرادات والنفقات من جهة، وداخل بنية النفقات من الجهة الثانية، ظل محمولاً حتى نهاية العام 2019. فمع بداية الأزمة إنقلبت المعادلة رأساً على عقب. ديون الضمان على الدولة ارتفعت إلى 4800 مليار، ومساهمة أرباب العمل ما زالت 8.5 في المئة من الأجر، واشتراكات العمال تراجعت نتيجة توقف الأعمال وارتفاع حالات الصرف. أما توظيفاته التي تتجاوز 11 ألف مليار ليرة في سندات الخزينة والحسابات المجمدة المدينة، فتراجعت عائداتها بنسب كبيرة مع انخفاض الفوائد وإعلان الدولة إفلاسها وتوقفها عن سداد ديونها. على المقلب الآخر، يستمر تمويل فرع المرض والأمومة العاجز بأكثر من 4000 مليار ليرة من صندوق نهاية الخدمة، والأخير يعاني من طلب غير مسبوق على سحب التعويضات. حيث صفى نحو 13630 عاملاً تعويضهم لغاية منتصف العام 2020 مع التوقع أن يكون قد وصل الرقم إلى نحو 30 ألفاً لغاية نهاية العام الماضي.
مهدد بالإفلاس
أمام هذا الواقع المعقّد يبرز انهيار سعر الصرف، وخسارة الليرة لنحو 86 في المئة من قيمتها كأكبر تحدٍ سيواجه الضمان في المستقبل القريب. فمتوسط التعويضات الذي يبلغ 31 مليون ليرة، أصبح يعادل اليوم 2300 دولار بعدما كان في السابق يساوي 20 ألف دولار. وفاتورة الإنفاق الصحي التي تقدّر سنوياً بألف مليار ليرة، 45 في المئة منها تذهب الى الدواء مباشرة، ستصبح خيالية في حال ترشيد أو رفع الدعم عن الدواء وتغيير تسعيرة المستشفيات، و”ستؤدي حكماً إلى تعطيل دور الضمان الإجتماعي وتدفع به إلى الإفلاس”، بحسب عضو مجلس الإدارة في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي، والخبير في مجال التأمين أنطوان واكيم. “فمشكلة الضمان الراهنة تتمثل في دينه الكبير بذمة الدولة، الذي أصبح يعادل ثلث أموال الصندوق. وكما يبدو فان كل تأخير في دفع مستحقات الضمان المكونة بأكثر من 80 في المئة بالليرة اللبنانية، يخفّض من قيمتها أكثر نتيجة التدهور المستمر في سعر الصرف، ويجعلها عرضة للذوبان كما ذابت مدخرات اللبنانيين. وحل هذه المعضلة آنياً قد يكون بطلب مساعدة عاجلة من البنك الدولي أو منظمة الصحة العالمية أو غيرهما من الجهات الممولة. ومن الجهة الأخرى يرى واكيم أن “اشتراكات أرباب العمل المقومة بالليرة فقدت قيمتها أيضاً، ويجب تعديلها في المرحلة القادمة بعد تشكيل الحكومة وبدء الإقتصاد بالتعافي. وهذا يتم من خلال تجديد عقد العمل الجماعي بين العمال وأرباب العمل والصندوق”.
المعالجة الفورية لفاتورة الدواء
الضمان الإجتماعي بما يمثل من حاجة ضرورية، لا يعيش على جزيرة منفصلة عن الواقع. وهو لن يستطيع الإستمرار ما لم يترافق تصغير حجم وكلفة الخدمات مع التراجع الهائل في حجم الإقتصاد. فـ”الدخل القومي تراجع في لبنان من حدود 11 ألف دولار إلى 7300 دولار في العام 2019، ووصل إلى 3000 دولار حالياً. ما يجعلنا قريبين جداً إلى “سريلانكا” وعلى بعد “رمية حجر” من إثيوبيا”، بحسب واكيم. و”من المستحيل الإبقاء على فاتورة دواء تقدر سنوياً بـ 1.1 إلى 1.2 مليار دولار بالمقارنة مع هكذا دخل قومي”. من هنا فان قدرة الضمان على تلبية الحاجات الإستشفائية للمضمونين يجب أن ترتبط بسياسة دوائية عامة قوامها الرقابة الجدية. فـ”على عكس فرنسا مثلاً التي يستحيل فيها حصول المريض على أكثر من وصفة طبية في الوقت ذاته، يتيح النظام في لبنان أخذ أكثر من وصفة طبية مشابهة في الوقت عينه، وتسجيلها على الضمان”، يقول واكيم. لذا فان مواجهة ارتفاع أسعار الدواء قريباً تتطلب من الضمان اتخاذ خطوات سريعة ومنها: مراقبة تقنية جدية تقوم على نظام معلوماتي حديث، على غرار الشركات الخاصة. قبول فقط الأدوية الجنيسة generics كما هو معتمد في مختلف أنظمة الضمان العام الأجنبية. وهذا يتطلب من وزارة الصحة الإنتهاء لمرة واحدة ونهائية من الجدل القائم حول فاعلية الأدوية الجنيسة. التناغم بين وزارة الصحة والضمان الإجتماعي والقطاع الصحي بصورة عامة. تفعيل الإتفاق الذي يقضي باستيراد أو تمويل الضمان استيراد الأدوية طبقاً لشروطه، وبناء على الحاجات الموضوعية للمضمونين التي يمكن توفيرها بسهولة.
وللإستشفاء حصة
في الوقت الذي بدأ فيه الكثير من المستشفيات تسعير الخدمات الطبية على أساس سعر صرف 3900 ليرة، ما زالت نسبة الإدخال إلى المستشفيات على نفقة الضمان الإجتماعي تبلغ 23 في المئة، مقارنة مع 13 في المئة في شركات التأمين الخاصة. هذا الفرق المقدر بحدود 10 في المئة “يجب تظهيره وتبريره”، بحسب واكيم. فـ”هل السبب هو ارتفاع نسبة كبار السن المضمونين بالمقارنة مع الشباب؟ أم أن هناك فوضى وعدم رقابة جدية مع المستشفيات؟ إذ لا إحصاءات بين أيدينا كأعضاء مجلس إدارة للإجابة على هذه التساؤلات”.
لمؤتمر صحي وطني
المشكلة الصحية لا تقف على أعتاب الضمان الإجتماعي بل “تطال كل الجهات الضامنة ابتداء من وزارة الصحة مروراً بتعاونية موظفي الدولة والطبابة العسكرية وصولاً لصناديق التعاضد”، يقول رئيس “إتحاد صناديق التعاضد الصحية” غسان ضو. “مع العلم أن مشكلة الضمان قد تكون الأكبر نتيجة حجمه، ودوره الذي يتخطى الضمان الصحي إلى التعويضات العائلية ونهاية الخدمة، أولاً، ونتيجة الخطأ المعيب الذي ارتكب بحقه بـ”إقناعه” بتوظيف مدخراته بسندات الخزينة ثانياً”. وما يحصل أن تكلفة التعرفة الطبية المتفق عليها بين المستشفيات والجهات الضامنة تدفع من قبل الأخيرة بأقل من قيمتها الفعلية اليوم بنحو 11 مرة. ما يجبر المستشفيات على تقاضي الفرق من المريض. هذا الوضع “لم تعد تنفع معه الحلول بالتجزئة”، بحسب ضو. و”أصبح يتطلب مؤتمراً وطنياً عاماً. إذ إن مواكبة الوضع تتطلب من الضمان رفع اشتراكات أرباب العمل 4 مرات أي من 8.5 في المئة إلى 35 في المئة. ويتطلب رفع موازنة وزارة الصحة المحددة بحوالى 640 مليار ليرة 4 أضعاف أيضاً، والأمر نفسه ينسحب على الصناديق الضامنة. وفي ظل استحالة تطبيق هذه المعادلات لا يبقى أمامنا إلا المطالبة بمؤتمر وطني صحي عام للإتفاق على أقصى ما يمكن تقديمه والإستعانة بالجهات الدولية للمساعدة، وإلا فان نظام الضمان الصحي والإستشفائي في لبنان آيل للهبوط في المستقبل القريب”.
المعالجة العامة للأزمة الصحية الوطنية يجب ألا تلغي الإنتباه إلى تفاصيل الهدر والفساد ومعالجتهما. فالأكيد أنهما يشكلان نسبة عالية قد تتجاوز بحسب الخبراء 30 في المئة من كلفة الفاتورة الصحية في لبنان.
Views: 2