في ظلّ المراجعة المستمرّة لسياسة إدراته الخارجية، والتي تزداد إرباكاً يوماً تلوَ آخر، يصل الرئيس الأميركي، جو بايدن، في آخر محطّة له ضمن جولته الأوروبية، إلى جنيف، للقاء نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بعدما جرّب إقناع حلفاء بلاده القدامى بأن «أميركا عادت» لتقود من جديد. لكن كذبة كهذه لن تنطلي حتى على ساكن البيت الأبيض نفسه، الذي لا يكلّ من ترداد الشعارات ذاتها، ومن بينها «الخطوط الحمر» التي يُسمح بالتحرُّك على هاشمها
في ختام جولته الخارجية الأولى، والتي اختار أوروبا وجهةً لها علَّه يعيد بعض البريق إلى العلاقات الخافتة على ضفَّتَيْ الأطلسي، يلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن، نظيرَه الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة جنيف السويسرية، اليوم، في قمّة يُتوقَّع أن يتركّز جدول أعمالها على قضايا الاستقرار الاستراتيجي، وآليات استئناف الحوار، وتحسين العلاقات التي بلغت أدنى مستوياتها في عهد الإدارة الجديدة. تدهور جاء بعدما اختار بايدن، ابتداءً، التصعيد الذي بلغ مبلغ القطيعة، قبل أن يفرمل اندفاعته، منتصف نيسان الماضي، بفعل تزايد التوتُّر على خلفية الملفّ الأوكراني، الذي أُعيد تحريكه في سياق تلبية تطلُّعات البيت الأبيض إلى احتواء منافِسته الروسية، مبادراً إلى اقتراح عقد قمّة مع مَن نعته، قبلها بقليل، بـ«القاتل».
في خلفيات تراجع الولايات المتحدة عن التصعيد في مواجهة روسيا، اعتبارها الصين عدوّاً أوّل – يشكِّل صعوده تهديداً لمكانتها المتدهورة على الساحة الدولية، ولأمنها القومي -، ينبغي تقديمه على منافِسة لا يتّسع الوقت – الحافل بالتحدّيات أميركياً – لمقارعتها هي الأخرى. وعلى قاعدة «أميركا عادت»، وحديث مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، أخيراً، عن «موقع القوّة» الذي انطلق منه بايدن في رحلته الخارجية الأولى، واستعداد الولايات المتحدة لـ»قيادة الديموقراطيات في العالم» مجدّداً، تبرز الطروحات الأميركية الساذجة، ولا سيما في ضوء لحظة الخلل المؤسِّسة التي تعانيها «الديموقراطية الأمّ»، والتي انفجرت في حادثة السادس من كانون الثاني، تاريخ اقتحام مبنى «الكابيتول» العريق، والذي ضاعف إرباك الإدارة الحالية، محليّاً، وعلى مستوى السياسة الخارجية. وعليه، تكمن أهميّة القمّة المرتقبة اليوم، في كونها ستُحدِّد «قواعد اللعب» على الساحة الدولية لاستبعاد أيّ تصعيد محتمل يمكن أن ينزلق إلى مواجهة بين أكبر قوّتَين نوويّتين. مع ذلك، لا يُتوقّع أن تسفر عن اتفاقات ملموسة، بحسب يوري أوشاكوف، مستشار بوتين للسياسة الخارجية، الذي قال: «لست متأكّداً من التوصّل إلى أيّ اتفاقات. أنظر إلى هذا الاجتماع بتفاؤل عملي»، فيما توقّع نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن تنتج من القمّة عودة السفيرين الروسي والأميركي إلى موسكو وواشنطن.
وتبرز استماتة بايدن لإظهار نفسه مختلفاً عن سلفه دونالد ترامب، الذي تعرّض لشتى أنواع الهجمات في أعقاب لقائه المغلق مع الرئيس الروسي، في هلسنكي، منتصف عام 2018، بحجّة أن ما جرى بحثه في الاجتماع ظلّ بعيداً عن الإعلام، على رغم أن القمة نفسها، وإن كانت إيجابية، إلّا أنها لم تُنتِج توافقات من شأنها أن تُحدث اختراقات في العلاقات. والجدير ذكره، هنا، أن الرئيس الأميركي، أيّاً كان اسمه، ليس مسؤولاً وحده عن توجيه السياسة الخارجية لبلاده، ولا سيما حين يتعلّق الأمر بروسيا، التي لا تزال المؤسسة العسكرية الأميركية تضعها في مصاف التهديد الوجودي، على خلفية قدراتها النووية أوّلاً، وما ورثته من عقلية الحرب الباردة ثانياً. هكذا، يذهب الرئيس الحالي إلى القمّة متأبّطاً، مثلاً، ملفّات حقوق الإنسان، ومتعهّداً بأن يحدّد لبوتين، خلال لقائهما، ما هي «الخطوط الحمر»، على رغم «(أننا) لا نسعى إلى نزاع مع روسيا، لكنّنا سنردّ إذا واصلت أنشطتها»، على حدّ قوله. وفي حين وصف بايدن الرئيس الروسي بأنّه رجل «ذكي» و«صلب»، استبق بوتين اللقاء بالإشادة بخبرة نظيره الأميركي مقارنة بسلفه، ترامب. وقال، في حوار مع شبكة «إن بي سي» الأميركية: «الرئيس بايدن يختلف، بالطبع، جذرياً عن ترامب، لأنه محترف وعمل طوال حياته الواعية في السياسة». وأضاف: «هذا شخص مختلف. هناك إيجابيات وسلبيات، ولكنني آمل كثيراً أنه لن تكون هناك حركات اندفاعية من قِبَل الرئيس الجديد، وأننا سنلتزم بقواعد ما للتواصل، وسنتمكّن من الاتفاق على أمور وإيجاد نقاط التلاقي».
وخُطِّط لأن تتكوّن المحادثات من ثلاثة أجزاء، «أوّلها في إطار ضيق، ثم موسّع، ففاصل قصير لتناول الشاي والقهوة ومواصلة المفاوضات»، على أن يتحدّث الرئيسان، بعد ذلك، في مؤتمرين صحافيين منفصلين، فيما يلتقي بوتين، بعد انتهاء القمة، نظيره السويسري. وإلى أوشاكوف، يضمّ الوفد المرافق لبوتين وزير الخارجية سيرغي لافروف، والسفير الروسي لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف، ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف، ونائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف، ونائب مدير ديوان الرئاسة الروسية ديمتري كوزاك، والمبعوث الروسي للتسوية السورية ألكسندر لافرينتييف. وأشار أوشاكوف إلى أن موسكو وواشنطن اتّفقتا على جدول أعمال القمّة، ليشمل وضع وآفاق الدفع بالعلاقات الروسية – الأميركية، وقضايا الاستقرار الاستراتيجي، ومكافحة الجرائم الإلكترونية، والتعاون الاقتصادي، والمناخ، ومنطقة القطب الشمالي، ثم القضايا الإقليمية مثل الأوضاع في الشرق الأوسط، وسوريا، وليبيا، والبرنامج النووي الإيراني، وأفغانستان، وشبه الجزيرة الكورية، وإقليم ناغورنو قره باغ، وأوكرانيا، فيما لم يستبعد احتمال تطرُّق الرئيسين إلى قضايا أخرى، مثل بيلاروسيا والمعارض الروسي المعتقل أليكسي نافالني.
Views: 5