لكل من الأرقام الثلاثة في اقتراعات ثلاثة متتالية في جلسة مجلس النواب (31 أيار) دلالة برسم المستقبل القريب والبعيد، أكثر منها اكتفاؤها بما أفضت إليه الجلسة. غالب الظنّ أنها جلسة الأصوات المستعارة التي احتاج إليها مَن خاض انتخابات الثلاثاء
مع أن أرقام جلسة انتخاب هيئة مكتب مجلس النواب الثلاثاء متدنّية وضعيفة، يفترض أن تنتهي الى تفسير سلبي بإزاء حضور النواب الـ 128 جميعاً، ومشاركتهم في دورات الاقتراع – إذ نادراً ما ظلّ الالئتام مكتملاً الى الدقيقة الأخيرة – إلا أنها في الواقع قدّمت تفسيراً معاكساً، أظهر الأحجام الأولية للكتل في اختبارها الأول. سرعان ما ستتأكد هذه الأحجام، أو تتقلص، في الامتحان التالي، وهو تسمية رئيس مكلف تأليف الحكومة. أما انتخابات رئاسة الجمهورية، فحساباتها مختلفة، تعلّق التوقيت المحلي على الملاءمة الإقليمية والدولية.
كل تفسير وتأويل أُلحِقَ بجلسة الثلاثاء، يمكن أن يصحّ ويكون صائباً. له حججه وما يبرّره، وقابل للتصديق ومقنع:
– إذا قيل إن فوز الرئيس نبيه برّي بولاية سابعة بأصوات لم يعتدها من شأنه إضعاف قيادته البرلمان ومرجعيّته السياسية فهو قول صحيح. إلا أن الصحيح أيضاً أن توازن القوى وليس الصلاحيات في المجلس والحكومة والشارع، هو الذي يدير اللعبة السياسية وينظّم الخلافات ويوزّع الأدوار والتحالفات.
– والقول إن النواب الـ 13 للمجتمع المدني افتقروا الى المناورة منذ اليوم الأول لدخولهم الى البرلمان، فلم يسعهم سوى الاحتجاج ورفع النبرة والتصرّف كأنهم «ناظر» على رئيس المجلس، هو صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنهم خسروا الجولة الأولى، فلم يصل أيّ منهم أو أيّ ممّن دعموا انتخابه الى هيئة مكتب مجلس النواب.
– القول إن التيار الوطني الحر كان يحتاج الى الحليف الذي هو حزب الله، وفي الوقت نفسه تجرّع كأساً مرّة هي حليف الحليف الذي هو حركة أمل، صحيح. بيد أن الصحيح أيضاً أن لنيابة رئاسة المجلس ممراً إلزامياً هو رئيس المجلس، لا وصول إليه من دونه.
– صحيح أن حزب القوات اللبنانية اعتقد أن انتفاخ كتلته النيابية جعله فريقاً لا يُستغنى عن عداوته، وفي الوقت نفسه حاجة لمعارضي حزب الله الى التحالف معه. لكن الصحيح أيضاً أن ما انتهت إليه جلسة الثلاثاء كشف مرة جديدة أن من الصعوبة بمكان هضم الحزب في المعادلة الداخلية. مقدار ما أغراه حجمه الجديد، لم يُثِر حتى الآن على الأقل قلق منافسيه وأعدائه.
أما ما يفترض أن يُستخلص ممّا حدث الثلاثاء، فهو أن حزب الله ربح كل شيء تقريباً، ولم يخسر أيّ تفصيل:
1 – بعض المعلومات تحدّث عن اهتمام شخصي للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله باليوم الطويل في ساحة النجمة، وخرج منه بثلاثة انتصارات، مفارقتها أن رقمها واحد هو 65 نائباً، في انتخاب رئيس المجلس ثم في انتخاب نائبه وفي الانتخاب الوحيد لأمين السر، أحد الأعضاء الخمسة الآخرين في هيئة المكتب. على إثر انتهاء انتخابات 15 أيار، قال نصر الله مسلّماً بنتائجها إن أيّاً من الأطراف لم يحز الغالبية المطلقة، سواء كان فريقاً واحداً أو كتلاً متضافرة. على طرف نقيض منه، قال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إن الأكثرية «صارت عندنا»، في إشارة الى كتلته النيابية التي زاد أعضاؤها، وتحالفه المحتمل مع الأحزاب والشخصيات المسيحية المعارضة والمستقلين ونواب المجتمع المدني الـ 13. واقع الأمر أن جلسة الثلاثاء قلبت شعار اللافتة الانتخابية الحمراء: مَن قال إنه لا يملك أظهر أنه يملك، ومَن قال إنه يملك بَانَ لا يملك.
2 – ليس خافياً أن انتخاب رئيس المجلس هو الأصل، وانتخاب نائبه هو الفرع. ذلك ما انتهى إليه اقتراع الثلاثاء وقاده حزب الله بين حليفين عدوّين. إلا أن كلاً منهما يحتاج الى الاستعانة بالآخر، واستعارة ما عنده أو بعض ما عنده. فوز برّي حاصل في كل حال بصفته مرشحاً وحيداً. لكنّ الاكتفاء بالدورة الأولى من الاقتراع تطلّب ثلاثة نواب من التيار الوطني الحر من غير الحزبيين، فضلاً عن النواب الثلاثة لحزب الطاشناق، بينما فوز الياس بوصعب احتاج في المقابل الى الأصوات الـ 15 في كتلة برّي.
3 – لم يعنِ تمسّك حزب الله بانتخاب برّي رئيساً للمجلس من الدورة الأولى، سوى تأكيدٍ على أن مقاربته المنصب أنه موقع دستوري للمقاومة، أكثر منه منصباً شيعياً. في جلسة الثلاثاء، ربما للمرة الأولى، أكسب حزب الله موقع رئاسة المجلس رمزية لم تكن له قبلاً بمثل هذا الظهور والعلانية، بأن ربطها بـ«المقاومة» بكل ما تنطوي عليه من انقسام وطني داخلي، كان الى حدّ يميّز رئيس حركة أمل عن حزب الله، ويعثر فيه على ما لا يريده في الحزب.
لهذا السبب، في الغالب، لم يسع معارضو انتخاب برّي سوى أن يسقطوا في صندوقة الاقتراع 23 ورقة بيضاء، زائداً 40 ورقة ملغاة، ما جعل التصويت السلبي هذا يساوي نصف عدد مجلس النواب. كان محتوماً أن لا يكون ثمة مرشح شيعي آخر. إلا أن المحتوم الآخر هو حصول الانتخاب بالغالبية الدستورية الطبيعية لأيّ تصويت مماثل. لم تكن الأرقام العالية السابقة (1992 – 2018) لرئيس المجلس ما بين 90 و124 صوتاً سوى تعبير عن توافق سياسي مسبق، كان جزءاً لا يتجزّأ من المراحل تلك وتوازناتها الداخلية وإيقاعها المنتظم، وخصوصاً في ظل تفاهم شيعي – سنّي. آنذاك، كان يُعدّ أقرب الى شبه الإجماع، يطبّق على رئاستَي المجلس والحكومة، لم يعد متيسّراً الآن.
بستة أصوات مستعارة فاز برّي من الدورة الأولى، وبـ 15 صوتاً مستعاراً فاز بوصعب
أسوأ ما كان يمكن توقّعه، وصول الاقتراع الى الدورة الثالثة للفوز بالغالبية النسبية. إلا أن التصويت السلبي لنصف مجلس النواب، بين أوراق بيض أو ملغاة، ليس سوى تصويت صريح ضد رمزية «المقاومة».
4 – رغم ضراوة المنافسة بينه وبين غسان سكاف، ليس انتخاب بوصعب نائباً لرئيس المجلس هو الانتصار الفعلي للتيار الوطني الحر، ولم يكن يستحق بالفعل المجازفة في ظلّ تحالفه مع حزب الله، بل فوز آلان عون على زياد حواط في أمانة سر هيئة المكتب بفارق كبير في الأصوات (65 صوتاً في مقابل 38). خلافاً لعون الحزبي، لم تسعف عدم حزبية حواط، وربما بسبب وجوده في كتلة حزبية، وتشفع له بحصوله على عدد أكبر من الأصوات. مع ذلك، اتخذت المواجهة بينهما طابعاً مسيحياً محضاً بين الكتلتين المسيحيّتين الكبريين، كي يخرج أحدهما رابحاً والآخر خاسراً.
5 – إذا صح الظنّ بأن نجاح غالبية 65 نائباً في امتحانها الأول يصلح لأن يكون قاعدة أتاحت لحزب الله – مباشرة أو مداورة – جمع الأعداء والخصوم من حوله (الى كتلتَي الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر ووليد جنبلاط وحزب الطاشناق ونواب مسيحيين وسنّة مستقلّين وسبعة نواب سنّة يدورون في فلك الرئيس سعد الحريري صاروا وحدهم يمثّلون الشرعية السنّية المحظرة)، فلا مناص من القول إن نتائج انتخابات 2022 وما حدث الثلاثاء لا يقودان إلا الى تكليف الرئيس نجيب ميقاتي ترؤس الحكومة الجديدة.
Views: 2