وارتفاع مُذهل لأسعار الطّاقة؟ وهل سيُؤدّي الانقِسام الأوروبي المُتصاعد إلى انهِيار الاتحاد الأوروبي؟ وكيف دفعت أزمة الطّاقة برئيس هذا الاتّحاد لاستِجداء الغاز الجزائري؟ وبوتين ليس القذّافي
عبد الباري عطوان
عندما يتظاهر حواليّ مئة ألف في وسط العاصمة التشيكيّة براغ ضدّ حُكومة بلادهم ويتّهمونها بِصَبّ جُل اهتمامها على دعم الحرب في أوكرانيا على حساب مطالبهم المعيشيّة الأوليّة والأساسيّة، ويَحمِلون لافتات مكتوب عليها “الجُمهورية التشيكيّة أوّلًا” فإنّ هذا إنذارٌ بانتِقال هذه الظّاهرة “المُقلقة” إلى دولٍ أوروبيّة أُخرى في الأسابيع القليلة القادمة في تزامنٍ مع مقدم فصل الشّتاء القارس، والإجراءات التقشّفيّة التي تُلوّح بها الحُكومات لتخفيض استِهلاك الطّاقة، التي تضاعفت أسعارها، وباتت أكبر من قُدرات عشَرات الملايين من الأوروبيين.
أوروبا، قديمها وحديثها، تُواجه هذه الأيّام خطر الانقسام، والتهديد الجدّي لانهيار الاتّحاد الأوروبي بالتالي، لأنّ الآثار الكارثيّة للحرب الأوكرانيّة بدأت تصل إلى كُل بيت، وكُل شارع، وكُل مصنع أوروبي، فمُعدّلات التّدفئة في انخفاض، وإضاءة الشّوارع باتت مُقنّنة، ومحدودة السّاعات في الليل، الأمر الذي سيُؤدّي إلى تفشّي الجرائم، وستّة من بين كُل ثمانية مصانع في بريطانيا مُهَدَّدَةٌ بالإغلاق بسبب التّكاليف الباهظة لإمدادات الغاز والطّاقة، وهُناك خطط لتقليص أيّام الدّراسة في الجامعات والمدارس، وكذلك ساعات العمل، والعودة إلى عصر الفحم الأحفوري.
***
الأوروبيّون، شعبًا وحُكومات، تعرّضوا لخديعةٍ كُبرى اسمها العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة وفاعليّتها الأكيدة في تدمير الاقتصاد الروسي، وإضعاف الروبل، وتركيع الرئيس بوتين من خِلال دفع مُواطنيه للثّورة ضدّه، والانقِلاب عليه، وكأنّه معمر القذّافي، والآن، وبعد دُخول الحرب الأوكرانيّة الشّهر السّابع، أدركوا النتائج العكسيّة لهذه العُقوبات، وأن الحُكومات التي من المُحتَمل أن تسقط هي الأوروبيّة، فها هو بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا، الحليف الأوثق لواشنطن، يرحل غير مأسوفٍ عليه، وها هي الحُكومة التشيكيّة تُواجه غضبًا شعبيًّا غير مسبوق ورحيلها بات مسألة أيّام أو أسابيع، والحبْل على الجرّار.
هُناك أسلحة فتّاكة وغير عسكريّة في يد الروس، أبرزها الطّاقة والحُبوب، استخدمها الرئيس بوتين بطَريقةٍ فاعلة ضدّ الولايات المتحدة الأمريكيّة والعالم الغربي الذي تتزعّمه، وبدأ يحصد ثِمارها بشَكلٍ أسرع ممّا كان يتوقّع، وسِلاح الطّاقة على وجه الخُصوص الذي استنزف الاقتصاد الأوروبي، وضاعف مُعدّلات التضخّم التي وصلت إلى 15 بالمِئة في بعض الحالات، وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بشَكلٍ مُضاعف في مُعظم الدّول الأوروبيّة، بل العالم الثالث أيضًا.
من المُفارقة أن وكالة أنباء “رويترز” العالميّة نقلت عن مسؤولٍ أمريكيّ في البيت الأبيض اتّهامه اليوم الاثنين لروسيا باستخدام الطاّقة كسِلاح بإيقافها لضخّ الغاز عبر خط أنابيب “نورد ستريم 1” مُؤكّدًا أن العُقوبات الأمريكيّة على موسكو لا تمنع تشغيل خط أنابيب الغاز المذكور إلى أوروبا.
سُبحان مُغيّر الأحوال، وعلى من يضحك هذا المسؤول الذي لم يجرؤ على ذِكر اسمه، فوقف الغاز والنفط الروسي إلى أوروبا كان وما زال يتصدّر العُقوبات الأمريكيّة على روسيا، ومن تمرّد على هذا البند فيها هي أوروبا التي لم تلتزم به، والأكثر من ذلك رضخت بعض دولها للشّروط الروسيّة بتسديد ثمن وارداتها من الغاز والنفط بالعُملة الروسيّة (الروبل)، وبوتين ما زال يتدلّل، ويطلب المزيد وربّما الاستِسلام الكامِل.
العُقوبات الأمريكيّة أذلّت أوروبا، وعزّزت من قوّة روسيا واقتصادها وعُملتها الوطنيّة، فها هو شارل ميشال رئيس المجلس الأوروبي يطير إلى الجزائر، ويَعقِد اجتماعًا مُغلقًا مع رئيسها عبد المجيد تبون مُستَجديًا تلطّف بلاده، ورحمتها، بزيادة ضخّ كميّات غاز إضافيّة لإنقاذ مُواطني دول الاتّحاد الأوروبي من الموت صقيعًا، وإعادة العلاقات مع إسبانيا التي يتمنّى رئيس وزرائها التّجاوب مع استِجداءاته بتوجيه دعوةٍ إليه لزيارة العاصمة الجزائريّة، وفتْح صفحة جديدة بين البلدين.
***
نحن في هذه المقالة تحدّثنا عن الغاز والنفط والحُبوب، ولم نتحدّث عن الجانب العسكري في الحرب الأوكرانيّة، وتفوّق الكثير من الاسلحة الروسيّة على نظيراتها الأمريكيّة والأوروبيّة، والنّزيف المادّي المُستَمر لخزائن دول حلف الناتو المُتورّطة في هذه الحرب، وإوشاك ترساناتها على الإفراغ شِبْه الكامِل من الأسلحة والذّخائر والمعدّات التي ذهبت إلى جبهات القِتال في أوكرانيا.
المُظاهرات اليوم في براغ، وغدًا في ألمانيا، وبعد غَدٍ في باريس ولندن، تذكّروا كلامنا هذا جيّدًا.. والأيّام بيننا
Views: 5