عودوا الى رشدكم او الحرب الكبرى
رامي الشاعر
وقّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صباح يوم أمس الأربعاء، 21 سبتمبر، مرسوما بشأن التعبئة الجزئية في البلاد، حيث سيتم استدعاء 300 ألف من قوات الاحتياط، ممن يمتلكون الخبرة العسكرية.
وما أن انتهى الرئيس الروسي من خطابه للأمة، حتى انبرت الأقلام والألسنة وظهر المحللون من شتى أجزاء المعمورة يحاولون فهم ما وراء قرار بوتين بالتعبئة الجزئية، وما يمكن أن تعنيه كلمة “الجزئية”. وبهذا الصدد أود توضيح أن استدعاء الاحتياط في الجيش الروسي نوعان: الاستدعاء الجزئي (وهو ما نراه الآن)، والذي تحدد تعداده وزارة الدفاع، والاستدعاء العام لكافة قوات الاحتياط لدى الجيش الروسي.
ووفقا لما صرح به وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، صباح أمس الأربعاء، فإن من يتم استدعاؤهم الآن هو 1% تقريبا من احتياطي التعبئة لدى الجيش الروسي، فلدى روسيا، وفقا لوزير الدفاع، موارد تعبئة ضخمة، ممن خدموا في الجيش الروسي، ولديهم خبرة قتالية، حيث يبلغ عدد هؤلاء 25 مليونا.
ad
وقد أوضح الوزير أن التعبئة الجزئية ضرورية بالدرجة الأولى للسيطرة على خط التماس مع العدو بطول 1000 كيلومتر، وكذلك على المناطق المحررة.
لهذا، أظن أن اللجوء لهذه التعبئة الجزئية الآن، بالتزامن مع الاستفتاءات التي ستجري في أربع مناطق، تسيطر عليها القوات الروسية، في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيه، في 23-27 من شهر سبتمبر الجاري، وإضافة إلى ما صرح به الرئيس بوتين من أن روسيا لا يمكنها أن تسلم أهلها ومواطنيها لذلك النظام الإرهابي الجلاد في كييف، والذي يمارس ضدهم الإبادة الجماعية والقمع والعنف والملاحقة، وسوف تستمع إلى رغبة هؤلاء المواطنين في تقرير مصيرهم. وما يمكن أن يتمخض عنه الاستفتاء من عودة تلك المناطق إلى حضن الوطن الأم من جديد، كما جرى في شبه جزيرة القرم، سيضيف مسؤوليات وأعباء ستضطلع بها المؤسسات العسكرية المدنية في تلك المناطق، لتأمين احتياجات البنى التحتية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية، لهذا السبب، أظن أن روسيا بحاجة إلى استدعاء جزئي لذلك الاحتياط لتأمين الحدود والعمق الجديد لروسيا.
وللتوضيح أكثر فإن تعداد الجيش الروسي العامل يبلغ حوالي 900 ألف فرد، وفي حالة الاستدعاء الجزئي يمكن أن يصل تعداد الجيش فورا إلى 2 مليون فرد، وهي عملية تحتاج من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع لإعادة تأهيل من يتم استدعائهم، وهم بطبيعة الحال، عسكريين بالأساس، ولهم خبرات قتالية واختصاصات عسكرية، حيث يتم تعريفهم بما تم تحديثه من أسلحة ومعدات. كذلك من الممكن أن تحتاج القوات المسلحة الروسية إلى موجة ثانية من التعبئة، ليصل تعداد الجيش إلى 6 ملايين، مؤمنين بالسلاح والعتاد. أما الاستدعاء العام أو التعبئة العامة، فيبلغ تعداد الجيش في ظلها، كما ذكر وزير الدفاع الروسي شويغو، 25 مليون فرد، وذلك باستدعاء كل من خدم بالجيش ولم يتجاوز عمره 60 عاما، إضافة إلى تجنيد كل المؤسسات الإنتاجية المدنية بلا توقف لتأمين الاحتياجات العسكرية والمدنية لروسيا، حال الاضطرار لذلك.
لقد صرح الرئيس بوتين، في خطابه إلى الأمة يوم أمس، بأن جزءا من النخب الغربية، لا زالت تحاول بكل الطرق الإبقاء على هيمنتها، ولهذا السبب يحاولون حجب، وقمع أي مراكز سيادية مستقلة للتنمية، كي يستمروا بقسوة في إملاء إرادتهم على الشعوب والدول، وفرض ما يدعونه “قيمهم”. وأشار إلى أن هدف الغرب من ذلك هو إضعاف وفصل وتدمير روسيا في نهاية المطاف.
وتابع الرئيس بأنهم “يتحدثون بصراحة عن قدرتهم، في عام 1991، على تفكيك الاتحاد السوفيتي، والآن حان الوقت لتفكيك روسيا، وأنها يجب أن تتفكك إلى عدد كبير من المناطق التي تتحارب فيما بينها حروبا دموية، وهي خطط يمتلكونها منذ وقت بعيد، فقد دعموا عصابات الإرهاب في القوقاز، وبنوا هياكل البنى التحتية لحلف “الناتو” على أعتاب حدودنا، وجعلوا من “الروسوفوبيا” (رهاب الروس) سلاحهم الشامل”.
وللتذكير لا أكثر، فقد صرح الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، 19 فبراير الماضي، بأن أوكرانيا قد تعيد النظر في مذكرة بودابست، التي وقعت عليها في 5 ديسمبر 1994، لنزع سلاحها النووي، وهو ما جاء بالتزامن مع مطالبات من جانب مسؤولين أوكرانيين آخرين بالمطالبة بـ “أسلحة نووية”، ونشر قوات أوكرانية (تعدادها نصف الجيش الأوكراني تقريبا وفقا لبعض التقديرات)، على حدود دونباس، لذلك، والحديث لبوتين، كان حتميا على روسيا أن تتدخل دفاعا عن أهاليها من المواطنين الروس في دونباس، الذين ظلوا يواجهون الإبادة الجماعية (التي قال عنها المستشار الألماني، أولاف شولتس، أنها تثير سخريته)، والقمع، والعنف، والقصف اليومي على مدار 8 سنوات.
اليوم، يتابع الرئيس بوتين ووزير الدفاع شويغو، لم يعد الحديث يدور عن مجرد تدريبات ومناورات لحلف “الناتو” مع القوات الأوكرانية، على الأراضي الأوكرانية، على بعد مئات الكيلومترات فقط من الحدود الروسية، بل أصبحت أوكرانيا، وبعد أن خسرت نصف جيشها (100 ألف فرد تقريبا)، وفقا لبيانات وزارة الدفاع الروسية (القتلى 61207، والجرحى 49368)، تقاتل بأسلحة وتمويل “الناتو”، بينما يقوم بتخطيط المعارك 150 مستشارا من الحلف، ويتابعها ويرسل المعلومات في الوقت الحقيقي Realtime زهاء 70 قمر صناعي عسكري تابع للحلف، و200 قمر صناعي مدني غربي. علاوة على ذلك، فقد تم تصفية أكثر من 2000 من المرتزقة الأجانب الذين يقاتلون في صفوف الجيش الأوكراني والتشكيلات القومية الأوكرانية المتطرفة، بينما لا زال قرابة 1000 يعملون على الأراضي الأوكرانية. لذلك صرح شويغو بأن الحرب لم تعد مع أوكرانيا، وإنما مع الغرب، الذي يدجج أوكرانيا بمزيد من السلاح، بينما يعلن النظام في كييف الموجة تلو الأخرى من التعبئة، ليلقي بمزيد من المواطنين الأوكرانيين إلى التهلكة.
لقد تفاقم الوضع ما بين روسيا وأوكرانيا بسبب غباء الغرب، الذي لم ولا يدرك، ولا يعترف، حتى اللحظة، بهزيمته في أوكرانيا منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة، بعد أن تم تدمير البنى التحتية التي عكف “الناتو” و”البنتاغون” على بنائها لسنوات، لذلك كانت النتيجة انقسام الشعب الأوكراني بين الغرب، والشرق والجنوب، وهو ما سيلقى تجسيدا له فيما ستترتب عليه نتائج الاستفتاءات في المناطق الأوكرانية الأربع خلال أيام.
وبضم تلك المناطق، لن تصبح الحرب بين جمهوريات دونباس المستقلة (دونيتسك ولوغانسك)، واللتان اعترفت باستقلالهما روسيا في فبراير الماضي، وإنما بين روسيا وأوكرانيا، وسيعتبر أي اعتداء على الأراضي الروسية أمرا لا يتوجب معه القيام فقط بـ “عملية عسكرية خاصة”، وإنما بشن الحرب تجاه الدولة المعتدية. وهو الوضع الذي تسببت فيه السياسات الأوكرانية المنسحقة التي تتلقى أوامرها من السفارة الأمريكية في كييف.
لقد أحجمت وتحجم كييف عن التفاوض، ووقف إطلاق النار، ليس بسبب أن شروط التفاوض أو نطاقه لا يروق لها، وإنما لأنها ليست سيدة قرارها، الذي أصبح بحوزة من يمولها ويدعمها بالأموال والسلاح، لتنفيذ أغراضه ومصالحه وشروطه هو، وليس أغراض أو مصالح أو شروط الشعب الأوكراني، وأصبح الشعب الأوكراني، والجيش الأوكراني مجرد قفاز للولايات المتحدة الأمريكية، يتعين عليه أن يتلقى مزيدا من الأسلحة، ويوسع نطاق القتال، ليقوم بالمهام القذرة نيابة عن واشنطن، حرب بالوكالة بامتياز، شأنها شأن كل الحروب الأمريكية، إلا أن نطاق القتال هذه المرة أوسع، والمواجهة بين قوتين نوويتين، وهنا مكمن الخطر.
لقد وصف بعض المحللين والسياسيين قرار بوتين بإعلان التعبئة الجزئية بأنه “ضعف” و”رد فعل على النصر الأوكراني في الهجوم المضاد” و”انتهاج لسياسة الأرض المحروقة”، إلا أنني أرى في قرار بوتين اليوم بداية لنهاية العملية العسكرية الروسية الخاصة، وبداية لمرحلة جديدة يضع فيها بوتين النقاط على الحروف، ويمنح “الناتو” وأوروبا فرصة أخيرة لتفادي حرب واسعة، تلقي فيها الولايات المتحدة الأمريكية بمزيد من الحطب والبشر (بولندا ودول البلطيق على سبيل المثال لا الحصر!) في أتون هذه الحرب، وهي الحرب التي خاضتها روسيا من قبل، وانتصرت وستنتصر فيها هذه المرة أيضا.
أما ما يخص الزملاء العرب من المحللين والمنظرين العسكريين والاستراتيجيين وغير ذلك مما يضيق المقام بسرد ألقابهم ومناصبهم، فالأرقام والبيانات مختلطة ومضطربة، والتنافس والهرولة لخدمة السيد البريطاني والأمريكي مستعرة، في الوقت الذي يطلق فيه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وزميله الفرنسي، إيمانويل ماكرون، صيحات الغضب تهديدا ووعيدا بأنهم، ويعني بذلك “المجتمع الدولي” بطبيعة الحال، لن يعترفون باستفتاءات المناطق الأوكرانية.
إلا أن ما لمسني حقيقية هو ذلك الوصف البليغ لبايدن عن الحرب الأوكرانية: أينما كنت تعيش، وبأي شيء كنت تؤمن، فمن المفترض أن “يجمّد ذلك الدم في عروقك” (من فرط الرعب!). دون أن تطرف له عين ليتذكر ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في العالم خلال نصف القرن الماضي في جميع أنحاء العالم، وسؤالي حقيقة لهذين الرئيسين تحديدا: ألا “يتجمد الدم في عروقكم” بشأن حصار غزة، أكبر سجن جماعي في التاريخ؟ ألا “يتجمد الدم في عروقكم” لما فعلتموه بالعراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن وقبلها فييتنام واليابان؟
أما إذا كنا سنتحدث عن القوانين الدولية والمجتمع الدولي، فأين أنتما من الصلف الإسرائيلي، وانتهاك جميع القوانين والأعراف الدولية وقرارات مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان من قبل الدولة المارقة إسرائيل؟ أين الدولة الفلسطينية التي تعيش جنبا إلى جنب مع نظيرتها الإسرائيلية وعاصمتها القدس؟ وكيف تنتهك الولايات المتحدة الأمريكية حقوق العالمين الإسلامي والمسيحي بكاملهما باعترافها بالقدس “عاصمة لإسرائيل”؟
بل قل، هل يوجد في عروق هؤلاء القادة دم كي يتجمد بالأساس؟
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
Views: 9