أما وقد دخلت البلاد منتصف الشهر الخامس من خلو سدّة الرئاسة، فإنّ السباق ما زال قائماً في اتجاه قصر بعبدا. وفي الوقت الذي يتلهّى ما تبقّى من مسؤولين في مواقعهم بصلاحياتهم، وعمّا إذا كان للمجلس النيابي الحق في التشريع، او انّ للحكومة الحق في الاجتماع وإصدار المراسيم، تشهد المنطقة وأجزاء من العالم «غلياناً منظّماً»، اختلطت فيه التفاهمات مع المناورات العسكرية، وهو ما يقود إلى أحلاف جديدة تحاكي شرق اوسط، وربما خليجاً جديدين. وعليه، كيف يمكن قراءة هذه التطورات؟
على وقع الزلزال الذي أحدثته «وثيقة بكين» على مقياس ريختر الخاص بالعلاقات الديبلوماسية بين السعودية وإيران برعاية الصين، تعدّدت السيناريوهات التي تحاكي ما جرى، وما يمكن ان يؤدي اليه، من إعادة نظر شاملة للعلاقات بين الدول المنخرطة في مجموعة من الأحلاف الكبرى التي تقود العالم، وتدير المواجهات المختلفة في أكثر من بقعة فيه. وهي من جنّدت لها القدرات العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية والطاقوية الهائلة. وهي استراتيجيات نمت وتعززت بطريقة أرهقت اقتصاديات دول كبرى، وهدّدت أمنها القومي ودفعتها إلى تخصيص مئات المليارات من الدولارات من دخلها القومي لتعزيز موازنتها العسكرية بطريقة غير مسبوقة.
وفي مقابل هذه الصورة السوداوية التي تحيط بالكرة الارضية وقاراتها، يتجّه بعض القوى العالمية إلى الاعتماد على العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية والنفطية، تعويضاً عن استخدام الأسلحة الفتّاكة التي استُخدمت في الحروب التقليدية التي توجّتها الحرب العالمية الثانية وما تلتها من حروب إقليمية وضعت أوزارها قبل نهاية القرن الماضي. وإن كانت الولايات المتحدة الاميركية قد سبقت العالم أجمع باللجوء إلى هذه الأسلحة البديلة، باعتمادها على العقوبات المالية والاقتصادية والنفطية والحصارات الديبلوماسية استناداً إلى قوة الدولار الأميركي، باعتباره العملة الأكثر قوة وجاذبية للاستثمارات الدولية، متجاوزة بعض المحاولات الكبرى لمواجهتها بالمثل.
وفي انتظار معرفة النتائج التي يمكن ان تقود اليها بعض من هذه المحاولات، لا بدّ من الإشارة إلى فشل نماذج من سابقاتها، ولا سيما منها تلك التي خيضت على قاعدة استبدال الدولار الأميركي بالاعتماد على اليورو الاوروبي كعملة يمكن التعويل على قوتها الاقتصادية إلى جانب العملات الاخرى كالين الياباني والروبل الروسي واليوان الصيني. ولذلك، فقد توجّه أصحاب هذه المساعي إلى اسلوب آخر يستند إلى بناء تحالفات سياسية دولية واقليمية كبرى، في مواجهة ما سمّته «الأحادية الاميركية».
وإن تقدّمت روسيا وايران معظم هذه المحاولات، فلم تنجح في تشكيل أي هيئة دولية مناهضة. فقد سبق ان انخرطت معظمها في تجمعات دولية كبرى، وليس من السهل فك ارتباطها بها أو التراجع عن التزاماتها المسبقة المحكومة بمجموعة الدول السبع، قبل ان تستوعبها مجموعة الدول العشرين التي شكّلت أكبر منتدى دولي يجمع رؤساء الدول وحكوماتها، فضلاً عن وزراء المالية والخارجية ومحافظي المصارف المركزية ومراكز الفكر من 20 دولة ومعها المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي.
فمنذ ان تأسست هذه المجموعة عام 1999 شكّلت اكبر تجمّع دولي لمناقشة السياسات المتعلقة بتعزيز الاستقرار المالي الدولي، ومعالجة القضايا التي تتجاوز مسؤوليات أي دولة او شخص، في اعتبارها القوة التي تجمع وتُمثل اقتصادات الدول الأعضاء مُجتمعة بنحو 90% من إجمالي الناتج العالمي، و80% من التجارة العالمية، او 75% في حالة عدم احتساب التجارة البينية في الاتحاد الأوروبي، وثُلثي سكان العالم، وحوالى نصف مساحة اليابسة فيه.
ليس في ما سبق أي محاولة لإعطاء درس جيو ـ سياسي او جيو – اقتصادي دولي، انما للإشارة إلى النقلة الديبلوماسية النوعية التي أقدمت عليها الصين الشعبية، في اول رعاية لها لتفاهم إقليمي بالحجم الذي تمثله كل من السعودية وإيران. فالصين التي تتقدّم مجموعة «دول العشرين» بأشواط بعيدة باقتصادها الذي بلغ ناتجه ما يقارب الـ 23.393 تريليون دولار، جمعت في عاصمتها دولة كالسعودية تتمتع بالمركز السابع عشر من قلب المجموعة عينها، باقتصاد بلغ ناتجه القومي 1.677 تريليون دولار ـ وايران، وإن كانت من خارجها- فهي اقتربت من تسجيل ناتج قومي يقدّر بتريليون دولار.
وعلى هذه القاعدة الرقمية الخاصة بالناتج القومي، فإنّ ضمّ اقتصادات الدول التي يمكن ان تبارك التفاهم الجديد وتنخرط فيه، ستشكّل قوة اقتصادية مرعبة. فبالإضافة إلى ما جمعته «وثيقة الصين» فإنّ انضمام دول مجلس التعاون الخليجي إلى هذه القوة – وإن كانت جميعها من خارج مجموعة العشرين – سترفدها بناتج قومي اقترب عام 2022 من تريليوني دولار، وسط توقعات تقول بأنّ إجمالي ناتجها المحلي سينمو إلى 6 تريليونات دولار بحلول عام 2050، إن استمرت دول المجلس في العمل كالمعتاد.
وكيف سيكون الوضع عليه إن انضمت روسيا التي تحتل المركز السابع من دول مجموعة العشرين بناتج قومي بلغ 4.135 تريليون دولار، وتركيا الرابعة عشرة في تركيبتها بناتجها القومي البالغ 2.471 تريليون دولار.
على هذه المعطيات وما تعنيه ارقامها ومؤشراتها، تبقى الإشارة ضرورية إلى الغليان العسكري في أكثر من منطقة من العالم، والذي يوحي بسيناريوهات بعيدة عمّا يمكن ان تحققه المعاهدات السلمية. ففي مواجهة وموازاة المناورات الثلاثية الايرانية ـ الصينية – الروسية في بحر العرب، بدأت المناورات الثنائية الاميركية – السعودية في صحراء الربع الخالي. وإن كانت الأولى قد اختارت عنواناً لها لتوفير «حزام الأمن البحري»، فإنّ الثانية اختارت «الرمال الحمراء» مسرحاً لمحاكاة طريقة مواجهة «الأمن الجوي» وحماية اراضي المملكة من «الدرون» الايرانية، فهي كانت مقرّرة قبل الاعلان عن «وثيقة بكين»، ولم يُعلن عن تغيير أهدافها. وإلى ان تتضح النتائج المترتبة على المواجهة الجوية الاميركية – الروسية فوق البحر الاسود، يكثر الجدل عندنا عن انعكاسات ما يجري على الساحات الدولية على ساحتينا الصغيرة والإقليمية منها.
وتاسيساً على ما تقدّم من مؤشرات اقتصادية ومالية وأمنية وعسكرية، بما فيها المناورات والمواجهات المتعددة الجنسيات، يتركّز الاهتمام لفهم نتائج اللقاءات البرلمانية التي شهدتها البحرين للمرة الاولى مع وفد من لجنة الشؤون الخارجية الايرانية، تزامناً مع زيارة رئيس الوفد المفاوض إلى محادثات الصين أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني إلى الامارات العربية المتحدة الادميرال علي شمخاني، حيث التقى رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. على ان تبقى زيارة الرئيس الصيني الذي تمّ انتخابه لولاية رئاسية جديدة، لموسكو في الأيام المقبلة، خير دليل على انّ للصين دوراً يلعبه «رجلها الأول» في السنوات الخمس المقبلة على الأقل. مع ما يمكن ان يعكسه «الغليان المنظّم» الذي يفرض إيقاعه على معظم القوى الدولية. وعليه، طُرح السؤال حول ما ستكون عليه موازين القوى لتنتج «شرق اوسط جديداً» وربما «خليجاً جديداً». فالدول في المنطقتين هي الأكثر تأثراً بالتطورات المقبلة.
Views: 4