- لبنى شاكر
«مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة لي، ورقة خريف أسقطت مصابيح زرق»، هكذا وصف حنا مينه مهنة الكتابة يوماً، هو الذي شكلت رواياته مساحة للاشتغال سينمائياً ودرامياً بموازاة حيوات يعيشها قراؤه باستمرار.
تجربة الأديب السوري، كانت موضع بحث في ملتقى السرديات، ضمن ملتقيات دمشق الثقافية في دورتها الثانية، ليس من باب النقد بل عبر انطباعات وملامسات إنسانية ووجدانية قاربت سيرته الذاتية ومشواره في عالم الرواية والقصة، بدأت بفيلم أعده الزميل علي العقباني، وثق لكتابة بعيدة عن التنظير باتجاه بؤس الفقراء ومعاناتهم، حيث كانت لـ «مينه» قضية واحدة هي «الإنسان».
بدأت رحلته من لواء اسكندرون، انخرط وسط الحمالين في الثانية عشرة من عمره، هناك علموه أول مبادئه السياسية من خلال نضالهم المبكر ضد ثنائية الانتداب الفرنسي والإقطاع، وفي خضم هذه الحياة القاسية كان لهذه التفاصيل أن تترك أثرها الجلي في رواياته. أما مشواره مع الكتابة، فكان حين ظهرت أولى قصصه القصيرة، التي أخذ ينشرها في الصحف والمجلات المحلية، لكنه لم يجمعها في كتاب، وفي مجمل ما كتبه، كان «البحر، الجبل، النضال الوطني، الجنون، البطولات الشعبية، الموروثات»، حاضرة في تصويره البارع لمختلف التفاصيل.
يقول مينه عن الأدب: لقد فكرت منذ قرأت عمر الفاخوري في الأربعينيات كيف يكون الأديب من لحم ودم وليس من حبر وورق، وأدركت أن لا شيء يجعل الأديب حياً مثل أن يباشر الإحياء ويخرج من وحدته التي لا تتيح سوى السقم والأشباح، وأن التجربة بأوسع وأعمق معانيها، هي التي تكسو هيكل الأديب باللحم والتي تجعل الدم يجري في شرايينه، وبذلك تؤهله ليكون مخلوقاً حياً، يخلق شخوصاً أحياء، يعيشون بيننا ويتنفسون هواءنا، ويكونون صورة عنا، حتى إذا عايشنهم في الكتب قلنا هؤلاء هم نحن.
ما سبق ميّز تجربة الأديب، وأعطاها صفة الريادة في الرواية العربية برأي الدكتور عاطف البطرس، ولذلك أسباب كثيرة منها «قدرته على استبيان القوة والضعف في النفس البشرية، عبر لغة رصينة، بعيدة عن التقعر بالمفردات أو الهبوط بها، فكان لأدبه القدرة على جمع الناس حوله أغنياء وفقراء»، إذ تمتلك الشخصيّة التي يكتبها مينه استقلاليّتها الخاصّة، وهي التي تختار تطوّرها وفق شبكة العلاقات في الرواية، وليس حسب رغبة الكاتب. وأبرز مثال على ذلك شخصيّة «الطروسي» فهي ليست شخصيّات مهندَسة إنما شخصيّات مَصوغة من لحمٍ ودم».
في رواياته«المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الياطر، الأبنوسة البيضاء، حكاية بحار، بقايا صور» وغيرها، تظهر المرأة بصور أقرب لواقعها، رصدتها الدكتورة وجدان محمداه في رسالتها للماجستير، واستعرضت في الملتقى نماذج منها، فالمرأة على حد وصف الأديب «مباركةٌ في كل حالاتها، وطوبى لكل سيئةٍ؛ لأنها في سوئها صنعت تقدماً اجتماعياً لم يقوَ عليه الرجل بشرفه المزيف، وطوبى لأول امرأة دخلت المقهى، وأول امرأة رقصت، وأول امرأة سافرت وكسرت طوق القهر الاجتماعي»، «المرأة صانعة التقدم الاجتماعي، وهي جديرة بلعب هذا الدور المستقبلي إذ إنها منذ بدء الخليقة كانت قد قامت بهذا الدور، عندما كان آدم خاملاً فقالت له: قم وانهض وعمّر هذا الكون».
تناولت مداخلة محمداه المرأة في قسمين «العربيّة والأوروبيّة»، وعرجت على رؤية مينه لها فـ«حواء كانت جريئة دائماً، بدءاً وخاتمة، أبداً وأزلاً، إنها العناصر الأربعة الخالدة التي يتألف منها كوننا الفاني»، أيضاً «أحترم المرأة في أعماقي وأباركها، فهي صنو البحر قوة جبارة»، والأهم «إن قرون القهر الطويلة لم تستطع أن تدمر إنسانية هذا الكائن اللطيف الحساس وبقيت روحها المشعة تغزل آمالها وطموحاتها عبر التضحية والعمل والمثابرة».
تحدث الكاتب حسن م يوسف، عن تجربته في كتابة سيناريو مسلسل «نهاية رجل شجاع»، المأخوذ عن الرواية التي تحمل الاسم ذاته، مؤكداً أن من يفهم الصورة جيداً يدرك أنه لم يكتب سيناريوهاً تلفزيونياً في العمل، بل آخر سينمائياً، مع عدد كبير من الإضافات بين شخصيّات وأحداث لم تكن مكتوبة في الرواية أصلاً، إلا أنه شكّلها بما يليق مع بيئة الرواية، فظهرت كما لو أنها من النسيج الأصلي لها.
وشرح الكاتب عن مغامرته في كتابة العمل: خلال هذه التجربة المشتعلة بالمعنى المجازي والحقيقي للكلمة، دخلت في محرقة نفسية وعصبية، وحقيقية أيضاً، فبعد أن أنجزت 13 حلقة، احترقت الخيمة التي كنت أسكنها، وتحولت الحلقات المكتوبة إلى حلقات من الدخان، تلك اللحظات أصعب لحظات عمري، قلت لنفسي يجب أن تكتب الآن، فأعدت الكتابة حلقة بعد حلقة حتى النهاية.
ما قدمه المشاركون من رؤى شخصية في أدب حنا مينه، فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات ونقاشات، بحثت في أسلوبه وطريقته في الكتابة، وهنا ميزة أخرى، اختص بها الأديب، في القدرة على طرح إشارات الاستفهام دائماً، فهو كما وصف نفسه: أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل.
Views: 0