ما
من شك أنها المرحلة الأكثر دقة وإثارة وخطورة في معركة «استعادة واشنطن
لطهران»، أو كما يتم التعبيرُ عنه «إعادة إيران الى طاولة المفاوضات».
المعروف عن الاميركيين براعتهم في خوض الحرب النفسية وتنفيذ المناورات على
طريقة افلام هوليوود. أما الإيرانيون فاكتسبوا شهرة واسعة من خلال براعتهم
الديبلوماسية وباعهم الطويل في معالجة مشكلاتهم وأزماتهم على طريقة صبرهم
وطول بالهم في حياكة السجاد.
في المدة الاخيرة، وخصوصاً منذ إدراج
الحرس الثوري الإيراني على لائحة الارهاب الاميركية، باشر الجنرال قاسم
سليماني نشاطاً سياسياً متزايداً الى جانب دوره العسكري يعكس تعاظم نفوذه
الداخلي.
هو قال في تصريح لافت إنّ بلاده لن تتفاوض مع الاميركيين تحت
الضغط الاقتصادي القسري لأنّ ذلك سيُعتبر استسلاماً. وبمعنى آخر أنّ إيران
قد تشارك في المفاوضات ولكن بشروط مختلفة. أي انّ إيران لن تذهب الى طاولة
المفاوضات منزوعة الاوراق ومن موقع الضعيف.
في المقابل، وبعدما وصلت
الضغوط الاقتصادية الى ذروتها مطلع الشهر الحالي، بدت واشنطن متهيّبة لعدم
دفع الامور الى الانزلاق نحو المجهول.
فنقطة الضعف في حربها مع إيران
تتركز في سوريا والعراق خصوصاً، حيث زهاء سبعة آلاف جندي اميركي وسط انتشار
جغرافي قابل لأن ينقلب في كل لحظة جحيماً وهو ما دأب وزير الدفاع الاميركي
السابق جيمس ماتيس واركان وزارة الدفاع الاميركية على التحذير منه.
شعرت واشنطن بوجود تباشير مؤشرات لا تبعث على الارتياح. وجاء إلغاء زيارة
لسليماني كان يود القيام بها الى العراق للمشاركة في مؤتمر أقامته فصائل
«الحشد الشعبي»، بمثابة مؤشر مقلق. ذلك أنّ البعض فسّره في اطار التنصّل من
استهداف يمكن أن يطاول مصالح أميركية في العراق.
إثر ذلك، وزّعت
الإدارة الاميركية معلوماتٍ مبالغاً فيها عن استعدادات إيرانية تجري من
خلال حلفائها، وارسلت حاملة طائرات وقطعاً بحرية، اضافة الى طائرات الـ «ب-
52». وطلب البيت الابيض من وزير الخارجية مايك بومبيو قطع زيارته لأوروبا
والتوجّه الى بغداد في رسالة واضحة وهي بتحميل بغداد مسؤولية المصالح
الاميركية في العراق.
فكلام سليماني حول عدم الذهاب الى المفاوضات من دون أوراق، فسّرها البعض أنها تعني وجوب امتلاك أوراق ربما تكون أمنية.
ذلك أنّ الجميع يعلم أنّ الناخب الاميركي ووفق استطلاعات الرأي يرفض
مسألتين: ارتفاع اسعار الوقود والدخول في حروب جديدة. وهذا ما تلعب على
وتره طهران ببراعة.
في المقابل فإنّ واشنطن، ووفق ديبلوماسيين مطّلعين
تبدو واثقة من أنّ إيران لم تعد بعيدة من الجلوس على كرسي المفاوضات.
فتزامناً مع الذكرى السنوية الاولى للانسحاب الاميركي من الاتفاق النووي
تضغط واشنطن اكثر بهدف «تجويع» النظام النقدي الإيراني وتقييد نمو البلاد
وتسعى الى قطع الطريق امام تنويع الاقتصاد الإيراني.
فهنالك انخفاض اضافي في قيمة العملة، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بعد انسحاب عشرات الشركات الاوروبية العملاقة.
وحسب مصادر مطلعة، فإنّ طهران وقّعت عقداً استثمارياً اجنبياً واحداً
وحيداً منذ مطلع السنة وهو مع شركة صينية لبناء مصنع للبتروكيماويات في
الاهواز. في وقت ابلغت الصين الى واشنطن أنها نصحت القادة الإيرانيين
بالتفاهم مع الاميركيين لأنّ الظرف لا يسمح بدفع الأمور الى الفوضى.
كذلك تدرك واشنطن أنّ تضاؤل قدرة الإنفاق لدى السلطات الإيرانية يفاقم من
حدة الازمة وسط كوارث طبيعية حصلت مثل الفيضانات وظهور الجراد.
ولكن
هذه المصادر تعترف أنّ النظام الإيراني ما يزال متماسكاً وهو ما سيعني
ذهابه في نهاية المطاف الى طاولة المفاوضات. ولكي تمنع الضغط عليها من خلال
نقاط ضعفها، كبّرت واشنطن «حجر» هجومها الوقائي عبر ارسال التعزيزات
العسكرية، ولكنها أرفقتها برسالة للمتحدث باسم وزارة الدفاع الاميركية
مفادها أنّ بلاده لا تريد حرباً بل حماية «جنودنا ومصالحنا».
هي لعبة الضغوط في عزّ الحروب النفسيّة. لكنها مناورات خطرة لا تتحمل ايّ هامش خطأ وكل فريق يراهن على نقاط ضعف الفريق الآخر.
ترامب يبدو مستعجلاً، فهو قرأ بتمعّن رسائل جولة العنف الاخيرة في غزة.
فحركة «الجهاد الاسلامي» وهي التنظيم الأقرب لإيران بادرت الى المواجهة
وجرّت وراءها حركة «حماس». ذلك انّ فريق ترامب حدّد مجدداً موعد الإعلان عن
«صفقة القرن» وذلك خلال شهر من الآن.
وفي التسريب المقصود لأجزاء من الخطة دور كامل لـ»حماس» شريكاً ثالثاً في التوقيع.
صحيفة «إسرائيل اليوم» معروفة بقربها من رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين
نتنياهو، وخصّها ترامب بأكثر من مقابلة صحافية، ما يعني انّ التسريب جدّي
ويهدف لجَسّ ردود فعل الاطراف.
ووفق ذلك تصبح اهداف الجولة القتالية الاخيرة واضحة وهي محاكاة «صفقة القرن».
إسرائيل غيّرت قواعد اللعبة واستعادت سياسة الاغتيالات، وهي من جهة لشطب
مفاتيح إيران في غزة، ومن جهة اخرى لتحذير معارضي الخطة لاحقاً.
و»الجهاد الإسلامي» ومعها «حماس» أظهرتا تآكل «الردع الاسرائيلي»، ومحدودية القدرة العسكرية الاسرائيلية امام معضلة غزة.
وفشلت «القبة الحديد» في تأمين الحماية الكاملة على رغم من التحديث الذي أجرته إسرائيل عليها طوال السنة الماضية.
لكنّ المؤشر الأكثر قلقاً كان بالنسبة الى إسرائيل تنامي قدرة حركة
«الجهاد الإسلامي» ونجاحها في جرّ «حماس» الى حيث تريد. ذلك انّ واشنطن
تراهن على دور لقطر مستقبلاً لتطويع «حماس» وتدجينها، وأيضاً لضربة جوية
قاسية في الصيف المقبل قد تشكل المخرج الميداني المطلوب لإدخال «حماس» في
الاتفاق.
لأجل كل ذلك، إضافة الى اسباب إقليمية أخرى معقدة تشمل الساحة
اللبنانية، أيضاً تريد الإدارة الأميركية التي تستعدّ للانتخابات
الرئاسية، أن تفتح ملفات التفاوض مع إيران هذا الصيف.
Views: 4