- \
هي السيبرانيّة… هذه القوّة النّاعمة التي تدير العالَم اليوم
وتَحكمه، وربّما ستكون وسيلة دماره. هي ليست سلاحاً ولا مادّة سامّة ولا
متفجّرة ولا سرّية مُبهمة، بل هي عِلم رقميّ… العِلم الرقميّ ذاته الذي
نستخدمه في تشغيل هواتفنا الذكيّة وقبلها اللّابتوب والكومبيوتر، وهو ما
يُشغّل كلّ البَرامج الإلكترونيّة في المجتمعات العصريّة؛ يعمل هذا العِلم
على توجيه العمليّات المُختلفة لتزويد المُواطن باحتياجاته الأساسيّة
وتنظيمه (الماء والتيّار الكهربائيّ والخبز وشتّى أصناف ضرورات الحياة)،
كذلك يعمل على تنظيم أعمال الإدارات والوزارات والشركات والجيوش والصناعة
والتجارة والاقتصاد والتعليم… وكلّ ما تحتاجه دَورة الحياة. وإذا تعطّل أيّ
نظام كومبيوتريّ لإدارةٍ ما، تتعطّل كلّ أعمال الإدارة المَعنيَّة
وتتوقّف، ومعها مَصالح الناس.
هذا العِلم المُذهل الذي أعاد تشكيل العالَم، فحقَّق لنا التطوّر بشكلٍ لم نكُن نتوقّعه في أجمل أحلامنا، ربّما يكون في طريقه إلى تدمير كلّ شيء بَنيناه بقوّته الناعمة إيّاها.
السيبرانيّة لفظة غريبة بمعنى أنّها أعجميّة، مصدرها كلمة Cyber ومعناها القاموسي: المُتخيَّل أو الافتراضي. ومنها “العالَم الافتراضي”، والمقصود الفضاء الإلكتروني أي السيبراني، والذي من خلاله نتبادل التهاتُف والتراسل، وهو ذاته الفضاء أي الحيِّز الذي نُخزِّن فيه المعلومات وبَرامج تشغيلها. وهذه المعلومات بمثابة هيكلنا المعلوماتي، بمعنى أنّها تتضمّن كلّ ما ينبغي علينا الاحتفاظ به من نصوصٍ ووثائق وصُور ومَقاطع فيديو وأفلام تشتمل على جميع شؤون الحياة والإنتاج والاقتصاد والدفاع والأمن وسواها. صحيح أنّنا نستخدم الكومبيوتر لكتابة الرسائل أو الأبحاث مثلاً، ونخزنها فيه، إلّا أنّها في الواقع لا تكون حبيسة الجهاز الذي نعمل عليه، بدليل أنّه بإمكاننا بلوغ هذه المعلومات عبر أيّ جهاز آخر في الصين أو في أقاصي أستراليا أو في الغرفة الأخرى في المنزل. هذا الحيّز الذي نخزن فيه المعلومات هو الفضاء السيبراني أو الإلكتروني الذي نتواصل معه من خلال الأجهزة الكومبيوتريّة.
والمعلومات فيه على نَوعَين مبدئيّاً:
المُتاحة المُباحة: والمثل عليها هو محرّكات البحث (غوغل وأمثاله)، حيث يُمكن الحصول على المعلومة المطلوبة عبر آليّة معيّنة.
المعلومات المَحميّة: وهي التي تخصّ مَن يخزّنها ولا يريد لغيره بلوغها. المثل عليها: حساباتك المصرفيّة الشخصيّة، حسابات الشركة أو المؤسّسة، حسابات الإدارة أو الوزارة والجيوش والموظّفين… وهذه معلومات لا تعني غير أصحابها، ولا ينبغي لغَير المُكلّفين الاطّلاع عليها إذ إنّها تكون “مَحميَّة” ببَرامج حماية خاصّة تحجبها. وحين ينجح آخر (مُنافس أو خَصم أو عدوّ…) في كسْر بَرنامج الحماية وتجاوزه للاطّلاع على معلومات الآخر، فهو بذلك يحصل على أفضليّة على ذلك الآخر من جرّاء كشفه أسراره ومَعرفة نقاط قوّته ومَكامن ضعفه. ومن هنا تنطلق آليّات السيطرة والتحكّم.
تعود بدايات ظهور كلمة “سيبرانيّة” إلى العام 1960 حين أطلقها الباحثان “مانفريد كلاينس” و”ناثان كلاين”؛ وإليهما يعود الفضل أيضاً في “نحت” لفظة سايبورغ- cyborg أو الكائن السيبراني cybernetic organism، إشارةً إلى كائنات مُعالَجة تمتلك أجزاء عضويّة وأخرى “بيوميكاترونيكيّة” (تكون حصيلة دمج عناصر ميكانيكيّة وأخرى إلكترونيّة وثالثة حيويّة). إلّا أنّ المعنى العملي للكلمة يتشكّل ويتطوّر بتغيير الزاوية التي نرتاد منها هذا العِلم وتقاناته. فحين تُهاتف صديقاً على الجهة الأخرى من الكوكب، وتعمل على مُتابَعة تعابير وجهه والمحيط الذي يجلس فيه، فأنتما تتبادلان الصوت والصورة في اللّحظة ذاتها عبر ما يسمّى الفضاء السيبرانيّ، هذا الحيّز المُتخيَّل (الافتراضي) الذي تَعبر من خلاله الكلمات والصور والفيديوهات والمعلومات، مِن وإلى، بواسطة أجهزة إلكترونيّة جرى تصنيعها خصّيصاً لهذه المهامّ (هاتف الجيب في حالة تهاتفك مع صديقك). وعلى ذكر المعلومات، فالفضاء السيبراني المُشار إليه، إضافة لكونه نوعاً من المَسارات للبث والتلقّي، فهو أيضاً حيّز لتخزين المعلومات… بكلّ أنواعها وأشكالها، وبالكمّ الذي تريد من دون سقفٍ ولا حدّ. فهذ الفضاء “افتراضي”… وبالتالي بالإمكان افتراضه بلا حدود.
على المستوى العَمليّ المحض لا تعدو السّيبرانيّة كونها ترابط كومبيوترات مع أنظمة إلكترونيّة. في المجتمعات المجهّزة تعمل هذه النُّظم السيبرانيّة المركزيّة على تشغيل الآلات والمعدّات التي تخدم كلّ المدينة، أو كلّ الأُمّة، وغداً ستخدم كلّ العالَم بشكلٍ شامل، مُحقِّقةً المزيد من الجدوى والدِّقة والغزارة والرفاهيّة، مع ضمان كفاءة عمل جميع الإدارات والمَصالح في مختلف القطاعات العامّة والخاصّة على حدّ سواء.
وهنا محطّة توقّف تُخبرنا أنّنا نصل إلى هذه المعلومات من خلال أجهزة الكومبيوتر على أنواعها وكذلك عبر الهواتف الذكيّة. فهذه هي الوسيلة المُناسبة، بدايةً لتخزين المعلومات في هذا الفضاء، ثمّ لبلوغها والتصرّف بها، وذلك عبر شبكة الإنترنت…
لكنْ… ما هي الإنترنت؟
إنّها شبكة اتصال أُقيمت بين أجهزة الكومبيوتر ونشأت بدايةً في العام 1969 لخدمة الأغراض العسكريَّة للولايات المتّحدة الأميركيَّة، وكانوا يسمّونها (أرْبَانتْ Arpanet). وفي لحظة معيّنة اتّخذت السلطات الأميركيّة قراراً بإطلاق هذه الشبكة على المستوى العامّ والشامل لخدمة أهدافها العالَميّة. إثر ذلك سارعت بعض الشركات المُتخصِّصة إلى إنشاء نظام يَسْمَح بتيسير الاتّصال والتواصل والتعارُف بين البشر عموماً عبر هذه الشبكة (بروتوكالات الاتِّصال IP، مثلاً)، وأُنشئت كيانات تُتيح لكلّ شخص أو جهة الحصول على صندوق بريد إلكتروني (Email)، وعلى مَواقع على الشبكة العالميَّة (World Wide Web) التي سمّوها بالعنكبوتيَّة تشبيهاً تقريبيّاً لها بشبكة العنكبوت. وعبر الكومبيوتر والأجهزة الإلكترونيّة المُناسبة يُمكن الدخول إلى هذه (الإبحار فيها) والاطّلاع على المعلومات المُتوافرة من خلالها.
الحقيقة أنّ تشغيل الإدارات في شتّى الوزارات والمؤسّسات والشركات والمَصالح تقريباً اليوم بات يتمّ من خلال المَكنَنة (اي بواسطة الكومبيوتر)، بمعنى أنّ معلومات البشريّة قائمة في هذا الحيّز ومَحميَّة ببَرامج معقّدة بما يكفي لكي يعجز أيّ متطفّل عن فكّ شيفرتها والدخول إليها. إلّا أنّ تجاوز هذه الحماية لا يكون مستحيلاً.
والملاحظة الأخيرة تنطوي على خطورة هائلة: تصوَّر مثلاً أن يمتلك موظّفٌ ما أرقامَ حساباتِ الشركة الكبيرة التي يعمل فيها، مع كلمات المرور العائدة لها. هذا سوف يسمح له بتحويل كلّ أموال الشركة إلى حسابٍ سرّي يجعله لنفسه في إحدى “الجنّات الضرائبيّة” في جزر “كايمان” مثلاً، حيث لا أحد يطال الأموال ولا أحد يُمكنه معرفة الهويّة الحقيقيّة لصاحبها…!
من هنا مشروعيّة التساؤل: لماذا تُختزَن المعلومات في الفضاء السيبراني؟
السؤال الأجدى هو السابق نفسه مع إضافة (لا) صغيرة: لماذا لا تُختزَن….؟
الواقع أنّك كشخص بحاجة للاحتفاظ بمعلومات شتّى. والشركة، أيّ شركة كانت، تحتاج إلى الأمر ذاته، وكذلك مختلف مؤسّسات القطاعَين العامّ والخاصّ، بما في ذلك الجهات صاحبة المعلومات الخطيرة مثل الجيوش والأجهزة الأمنيّة والجهات الاقتصاديّة والماليّة، والمؤسّسات التي تمتلك أسراراً صناعيّة وما إلى ذلك. وجعْل هذه المعلومات جميعها على الورق، لا يحتاج إلى جهدٍ هائل ووقت طويل جدّاً فحسب، بل يُعيق أو على الأقل يُبطئ أيضاً، وبشكلٍ كبير إمكانيّة بلوغ المعلومة المطلوبة، في حين أنّ مَكنَنة المعلومات يُتيح الاستعادة من خلال كبسة زرّ. هذا من دون تناسي إمكانيّة الخطأ البشري، وهي غير المُمكنة في حالة الآلة (الذكيّة).
إلى هنا تبدو الأمور المتّصلة بالسيبرانيّة إيجابيّة ومُشرِقة وذات فوائد لا تُحصى، وجدوى لا يُستغنى عنها، ولا تتضمَّن أيّاً من السلبيّات ولا تتسبّب مُطلقاً بالمَخاوف. إلّا أنّ الآتي يحمل بقيّة الصورة، وبالأحرى بقيّتها المُخيفة.
فقد سبقت الإشارة إلى أنّ تجاوُز بَرامج حماية المعلومات ليس مستحيلاً. وما فعله ويتابعه “جوليان أسانج” مؤسِّس موقع “ويكيليكس” الأشهر في العالَم، يعطي فكرة واسعة عن خطورة المعلومات التي يُمكن “قرصنتها” ونشرها. وإلى جانب “أسانج” لا يُمكن تجاهل “إدوارد سنودن” أيضاً، المطلوب رقم واحد من قِبل واشنطن، والذي حاز لقب “فاضح أسرار أميركا”. الإثنان أثبتا باختصار أنّ العالَم السيبراني ليس آمناً بالمُطلق، حتّى مع التقنيّة الأميركيّة الأكثر تقدّماً في العالَم.
ومن هنا تأخذ صورة “الأبوكاليبس” المُحتمل أبعادها المَلحميّة: الخطر أوّلاً من الإرهاب اللّاهث خلف قرصنة معلومات الجهات التي تعمل على محاربته، وقد ينفذ إلى أسرار تتيح له التدمير على نطاق كارثي. ثمّ التنافس بين الدول العُظمى لا يقلّ خطورة أيضاً، فقد تتمكّن هذه القوّة من اختراق معلومات القوّة الثانية وتعطيلها، فتضمن السيطرة والتحكُّم. وهذا هدف كبير لا يتورّع الكثيرون عن محاولة تحقيقه.
والمشكلة الأساس هنا أنّ إمكانيّة النفاذ إلى المعلومات تتيح للقرصان التحكّم بها ( وبالتالي بأصحابها). فلو تمكّن طرفٌ ما من فكّ شيفرة الحماية، تُصبح معلومات الآخر (المُنافس أو الخصم أو العدو) في حوزته. يستفيد منها ليتفوّق عليه؛ يتحكّم بها فيستخدمها ضدّه؛ يبيعها لمَن يطلبها… وربّما يُتلفها. وفي كلّ الحالات يكون الذي جرى فضْح معلوماته مُرتهَناً لمَن افتضَحها، ومُضطرّاً لتلبيته مهما طلب. وهذا باب السيطرة عليه والتحكّم به، وربما إعادته، ليس إلى العصر الحجري بالضرورة، بل إلى عصر القلم والورقة… (يا للهول!)
المعلومات في النهاية هي نقطة قوّة صاحبها، ونقطة ضعفه. نقطة قوّته لأنّه بفضل بَرامج تشغيليّة خاصّة يجري تسيير الإدارات والتجارات والصناعات والحروب وكلّ شؤون الحياة والعمل. بهذه الطريقة تصدر حوالات رواتب جيوش الموظّفين، وبها أيضاً تتمّ مُراقبة الأعمال والأعداء والحدود وضبط الأمن وتوزيع المياه والتيّار الكهربائي وتسيير القطارات والطائرات والسفن… منها يُمكن كشف نقاط قوّة الآخر ومَكامن ضعفه، ومنها هنا تنطلق آليّات السيطرة والتحكّم.
اليوم لم تعُد ترسانات الأسلحة الأحدث والأخطر عنصر القوّة الأساسي في العالَم… فما نفع القنابل الذرّية والأعلى منها ممّا لم نسمع به بعد، إذا كان بوسع ” قرصان معلوماتي” أن يعطِّل شيفرة إطلاقها والسيطرة عليها من على كُرسيِّه أمام شاشة في مقهى شعبي على شاطئ بعيد..؟ من هنا ينبغي الدخول إلى عالَم السيبرانيّة، لعبة الإنترنت الهائلة.
محمود بري
Views: 3