أياً تكن الأسباب التي تقف وراء الانتفاضة الشعبية، وأياً تكن الاتهامات التي تساق ضدها حول من يقف وراءها ويمولها، وأياً تكن نسبة الحقيقة في اتهامات كهذه، فإن الاكيد، وبعد 12 يوماً على انتفاضة الشارع، أن هناك حقيقتين لا يمكن إنكارهما او تجاوزهما: ان السلطة السياسية في البلاد، المتخلفة عن تقديم الحد الأدنى من حقوق المواطنين في العيش الكريم، عاشت في حال إنكار أعواماً كثيرة لمؤشرات التدهور الاقتصادي والاجتماعي والمالي، ما وفر للناس، الغاضبين من حال الاستعلاء ومن الهوة العميقة الفاصلة بينهم وبين الطبقة الحاكمة، الأسباب الموجبة وهي كثيرة ومتراكمة، للنزول الى الشارع. اذ بينت الايام 12 الماضية ان غضب الشارع لا يقف عند رفض السياسات القائمة التي أفقرت الشعب ودفعته الى الجوع، بل الى انعدام الثقة بمنفّذي تلك السياسات الذين آثروا مصالحهم ومحاصصاتهم، على مصلحة البلد وأبنائه.
اما الحقيقة الثانية فتكمن في أن استمرار الانتفاضة أكثر من أسبوع ونصف اسبوع، على زخمها وتألقها، رغم الرهان انها لن تصمد أكثر من يومين او ثلاثة، وضع السلطة السياسية في حال قلق وتخبّط، بفعل تعذّر اجراء اي عملية اصلاحية او علاجية للمشهد المأزوم، من دون تقديم تنازلات، لا يبدو ان هذه السلطة بكل مكوناتها، مستعدة لها، ولو بحدها الأدنى، لا في السياسة ولا في الاقتصاد. ذلك ان الورقة الاقتصادية التي اعتقد رئيس الحكومة انها يمكن ان تشكل مدخلاً لامتصاص نقمة الشارع، سقطت. ولم يكن سقوطها إلا نتيجة وعي المتظاهرين وإدراكهم استحالة تنفيذ مندرجاتها ضمن المهل المقترحة فيها. والدليل انه حتى اليوم، لم تبدأ لجنة المال درس مشروع موازنة 2020، في الوقت الذي كان يفترض ان تنعقد الهيئة العامة لاقرار المشروع بمادة وحيدة، كما الاجراءات الحكومية المقترحة من خارج الموازنة.
لا تساعد سياسة كسب الوقت الجارية، والرهان على وهن الشارع او ضربه بالقوة، الاقتصاد المهدد بالانهيار في كل لحظة، في ظل استمرار شلل القطاعات الإنتاجية للأسبوع الثاني، فيما لا يزال القلق الرئيسي يكمن في مدى قدرة المصارف على الاستمرار في الاقفال، وقدرة الليرة على الصمود، كما الودائع في وجه الحركة التي ستشهدها صناديق المصارف عند اول يوم عمل بعد الاقفال، علما ان لبنان يبدو متروكا وحيدا بعدما اقتصرت المواقف الدولية على ضرورة الاستماع الى صوت الشعب، بموازاة المضي في الاجراءات الإصلاحيات التي تعيد الى لبنان صدقيته.
وكانت وكالة “بلومبرغ” اشارت في تقرير لها الى أنّ دول الخليج “نأت بنفسها عن الاضطرابات الحالية في لبنان، ولم تستجب لمطالب رئيس وزرائه سعد الحريري لمنح بيروت تمويلا إضافيا قبيل اندلاع الأزمة”.
ونقلت الوكالة عن مصادرها، أنّ “مساعي الحريري للحصول على تمويل إضافي من الخليج قبيل بدء الاحتجاجات في لبنان باءت بالفشل، بسبب مخاوف الدول الإقليمية من أن تقع هذه الأموال في أيدي حزب الله في نهاية المطاف”.
ولفتت إلى أنّ “السعودية والإمارات والكويت التي لعبت سابقا دورا محوريّا في دعم الاقتصاد الهش، تمتنع اليوم عن الانخراط في الأزمة الحالية، مكتفية بإصدار بيانات عادية تدعو إلى التهدئة”.
وعزت الوكالة هذا الموقف الى سببين: أولهما “أن حكومة الحريري لم تجرِ أيًّا من الإصلاحات التي حضّها عليها المانحون في مؤتمر 2018، وثانيهما تعزيز حزب الله نفوذه في البلاد”.
وفيما تبدي الحكومة خشيتها من ان يؤدي استمرار التظاهرات او الذهاب الى الفراغ بفعل اي استقالة محتملة للحكومة، الى خطر الانهيار المالي، ثمة قراءة مالية مغايرة عكستها صور الانتفاضة السلمية الشعبية، ومفادها ان خطر الانهيار لن يتأتى من استقالة الحكومة، بل على العكس من بقائها، لأن اي انهيار محتمل سيكون نتيجة تهافت الناس على شراء الدولار، او على تحويل اموالهم الى الخارج، بسبب خوفهم على مستقبل البلاد. ولكن مع نزع الناس الثقة عن الحكومة وعن السلطة السياسية بكاملها، فإن استقالة الحكومة سيكون لها رد فعل معاكس تماماً، اذ سيستعيد هؤلاء ثقتهم بنظامهم الديموقراطي وبمؤسساتهم، علما ان معلومات كشفت عن اهتمام لبنانيين في دول الاغتراب بإنشاء صندوق لدعم الانتفاضة من خلال جمع التبرعات، ويجري العمل على بلورة الاقتراح الرامي الى تأمين مبلغ يودع في المصرف المركزي لدعم الليرة اللبنانية.
اما الكلام الذي تردد اخيرا عن قيام مصارف بتحويلات لحسابات خاصة الى الخارج، فتنفي مصادر مصرفية هذا الامر، مؤكدة ان التحويلات المشار اليها تمت على مراحل متدرجة منذ مطلع السنة، ما أدى الى خروج ما يقارب الـ7 مليارات دولار من القطاع المصرفي. اما اي كلام عن ضغوط محتملة على الليرة او على السحوبات، فهذا الامر تحت السيطرة لانه يرتبط بآجال الاستحقاقات، ولا يمكن ان يتم دفعة واحدة، في ما لو حصل اي امر استثنائي.
واستغربت المصادر عدم لجوء الدولة الى اتخاذ اي اجراء لإرضاء المتظاهرين، علما ان الاستقالة في رأيها هي اقل الأضرار الممكنة. وسألت: كيف تترك الدولة الساحة لبعض الغوغائيين الذين يسعون لاستغلال الحراك الشعبي لتحقيق مآربهم. فالمصارف تتعرض لتهديدات من هؤلاء وليس من يحميها، وهذا ما يدفع اداراتها الى الاستمرار في قرار الاقفال خوفا من اعمال شغب تستهدفها او تستهدف موظفيها.
ونوهت المصادر بقرار النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات بمنع عمليات إخراج الدولارات النقدية دفعة واحدة في حقائب صيارفة وتجار عبر المطار والمعابر الحدودية، بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اصدر تعميما في شأن إخضاع عمليات نقل الأموال هذه لأنظمة المصرف المركزي، كاشفة ان هذا القرار من شأنه ان يمنع اي عمليات تهريب للدولار من السوق، وهو كان بدأ العمل به قبل بدء التظاهرات
Views: 3