كثر الكلام عن رحيل حاتم علي، ولعل الضجة التي صاحبت وفاته هي خير دليل على الموقع الذي احتله في عقول ونفوس الملايين من العرب الذين شاهدوا أعماله وتعلقوا بها. ويقيني من خلال متابعتي بعمق لابداعه ومعرفتي الشخصية به، ان الدراما لن تكون بعده كما كانت قبله. فالرجل صاحب مشروع تنويري نهضوي اعتمد التاريخ مادةً دسمةً يستلهم منها العبرة والخبرة في توليفة درامية قل نظيرها.
كتب حاتم علي في بداية حياته مجموعته القصصية “موت مدرس التاريخ العجوز”. كان في هذا العنوان وغيره اشارات واضحة لعشقه هذه المادة التي استقى منها أول أعماله التاريخية وهو مسلسل “الزير سالم” الذي كتبه العملاق ممدوح عدوان. كان عملهما هذا اللبنة التي أسست لمدرسة الدراما التاريخية التجديدية، ومن هذا التجديد التاريخي بالضبط قاد لاحقا سلسلة من الاعمال التاريخية في لقاء عميق ووافر العطاء مع وليد سيف…
لقد فهم هذا الخجول الصامت أن العرب أمة ذات حاضر مثقل، وتاريخ يرشح بالكثير من المنارات النهضوية التي تدعو للاعتزاز. فعاد الى الكنز القديم ينهل منه مع وليد سيف حقائق مجيدة ، حوّلها هذا الثنائي الاستثنائي الى منارات درامية عربية بمعاير الزمن الراهن، وحققا نجاحا باهرا في كسرهما كل الحواجز بين الشاشة والجمهور، فكانت الباكورة- التحفة مع “صلاح الدين” …. ثم تتالت الأعمال في الثلاثية الأندلسية: صقر قريش . ربيع قرطبة . وملوك الطوائف.
نسج وليد سيف التاريخ بكتابة أدبية منمقة وحوارات رشيقة وانسانية وذكية وعميقة تأسر المشاهد حتى لتخالها نصا شعريا كاملا متكاملا، لفظا وموسيقا وإيقاعا . يكفي ان نقرأ ارقام ونسب المشاهدة في شهر رمضان، او أن ننظر الى الشوارع الخواية على امتداد الوطن العربي في أوقات عرض هذه الاعمال من دمشق الى بيروت فتطوان وصنعاء لندرك حجم التأثير .
ولأنه قد كتُب الكثير عن هذه الأعمال وبأقلام نقادٍ من طراز رفيع، فسوف أسمح لنفسي بأن اغوص قليلا بالشخصي، لاستعيد قصة تعكس شيئا من حقيقة ذاك الانسان المحب المتواضع المبدع الخلاق الذي لم تبهره الشهرة ولم تجعله يحيد قيد انملة عن أصالته واخلاقه في تعامله مع ممثليه ومع كل الآخرين.
قادتني حياتي الاعلامية وعاطفتي الشخصية لزيارة قبر المعتمد بن عبّاد في قرية جمعة اغمات جنوب مدينة مراكش المغربية. كان الطريق إلى القبر موحلا وصعب الوصول. لكن بعد عرض “ربيع قرطبة” ، تم تجديد القبر جدّد القبر واختير كمعلم تاريخي، وبني مسجد إلى جواره وعبدت الطريق، وذلك بمنحة من عمدة مدينة اشبيليا بأسبانيا. حصل ذلك بفضل أعمال حاتم علي.
أما التجربة الثانية فهي تخصّ والدي رحمه الله، فقد فتن بالزير سالم سيما أن جوهر العمل كان الثأر والقبيلة، وهي الى الكرم والنخوة وحب الضيف وغيرها ، من قيم القبائل التي ننحدر منها. لكن مطالع التسعينيات لم تكن ثمة تقنية لنسخ الأعمال كما هو الآن ،فسجّل أبي مقدمة المسلسل وكان يؤنس وقته بها إلى أن يحين موعد الحلقة التالية، واعتقد جازمة اليوم أنه كان يعيش لحظات من المتعة قلّ نظيرها بحيث يدخل الى المسلسل بكل حواسه ومشارعه حتى ليكاد يكون أحد شخصياته.
نعم استطاع حاتم علي أن يشغل بال المشاهد العربي كل يوم. وكانت الأسر تتجمع حول الشاشة لتتابع ماذا سيحصل للتحولات التي تجري في عائلة كريم، اي العائلة الدمشقية في الفصول الأربعة.
ربما الكلام عن فلسطين-القضية اليوم ما عاد يجذب كثيرين، اما بسبب تكسر نصال الحروب على نصال الفقر والمآسي والأمراض، أو لأن هذا الزمن ما عاد للأسف عند البعض زمن فلسطين. لكن كيف يُمكن ذكر العمق الفلسطيني والعذاب والألم والأمل، بلا الحديث عن ذاك العمل الابداعي الجلل الذي قدّمه حاتم علي بعنوان “التغريبة الفلسطينية” ، فهو بلا أدنى شك أكثر الأعمال التي شخصت الوجع الفلسطيني. لقد أبدع حاتم علي في تجسيد هذه المعاناة بكل احترافية واتقان حتى جعلنا ننسى أنه تمثيل. هو رسم في عقولنا واقعا لهذه المعاناة التي أبدع في تصويرها وفي تجسيد أدق وأبسط امورها وتفاصيلها حتى كدنا نعيشها كأنها الحقيقة. يقول وليد سيف إن منزل عائلته في عمّان كان أمام المخيم لذلك استطاع أن ينقل المخيم كبطل مكاني إلى جوار الأبطال في المسلسل.
من أكثر المشاهد المؤثرة التي أبكتني في مسلسل “التغريبة الفلسطينية” هو مشهد رثاء “علي” لأخيه حسن حين جاءهم خبر استشهاده دفاعاَ عن الأرض ضد الغزاة الصهاينة المحتلين: “أخي .. ذلك الشاب النبيل الذي قاسَمَني وقاسَمْتُهُ عُمرَ الطفولة و شراع السنديان، ذلك الطفل.. عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الماء، كنت أتعلم لغة الكتابة وقواعد النحو، حينما كان يتعلم لغة النهر والصخر والسنبلة، كنت أمتطي المعجم حين كان يمتطي الريح والعواصف، كنت أكتشف الأسئلة حين كان يعيش الأجوبة، كان يظن أني الجزء الذي لم يكنه، والآن أعرف أنه الجزء الذي لم أكنه.. هناك، في مكانٍ ما أجهله وتعرفه النجوم، يرقد أخي، يلبس جلد الأرض التي أَحبها و يستعير منها نبضه الجديد. أنا هنا أبحث عن الوطن الضائع في موال شعري، وهو هناك يكتشف الأرض فيه.. على عينيه ينمو عشبها وزعترها.ومن جرحه تتفتّح شقائق النُعمان وعروق الشومر البري، هناك هو تكتبه الأرض وتعيد كتابته في كل فصلٍ من فصولها، وأنا.. أنا الذي سرقت منه الكتاب والمدرسة والمحبرة، أنا هنا أبحث عن الكلمة التي تصفه، أستعير جلده لأكتب عليه شعري فيه، و لأشعر ببعض الرضا لعلّي أتابع حياتي من جديد. أخي.. أيها الشاب النبيل الذي ظلمناه، وأنصفته الأرض”.
في هذا المقطع النبيل تكمن لغة شفافة وصورة نقية وبليغة لعلاقة بين شقيقين كانا ضمن قافلة التغريبة …. من منا لم يتأثر بمشهد رشدي الذي مزّق المنحة وحمل السلاح؟ هنا كانت ثنائية رائعة جسدها حاتم امام الكاميرا كممثل وخلفها كمخرج٠
في مشهد لاينسى من مسلسل “عصي الدمع” يدخل خالد تاجا إلى قصر العدل كمجنون ويسأل: “نحنا وين”؟ يأتي الجواب: ” نحنا بقصر العدل “. قصر شو العدل ؟…..فينفجر ضاحكا ولا أظن ان هناك مشهدا مؤثرا مثل هذا المشهد لتجسيد غياب العدالة . في هذا المسلسل يؤدي حاتم دور قاض يترك القضاء ويعمل في إصلاح الساعات وهي إشارة الى أن الزمن يجب أن لا يكون زمن الفساد كي يصلح العدل . والساعة هنا ليست إلا رمزا للزمن.
كثيرة هي المشاهد والحوارات الباهرة في أعمال حاتم علي. ولا أظن أن مقالة تفي الرجل حقه بل نحتاج لإقامة ندوات لتقييم أعماله من البداية فقائمة أعماله كتابة وتمثيلا وإخراجا أشبه بمعلقاتنا السبع لكل منها حكايتها المؤلمة وشراسة متنها وقوة حجتها.
خرج حاتم علي من دمشق معطوب الروح وهو أسير حبها لم نجد مسلسلا فواصله المشهدية صور متعددة للشام كما مسلسل ” أحلام كبيرة” فقد أدرك هذا المخرج والممثل والمبدع الفذ، أن الحياة في المنافي لا يمكن أن تعطي الفرح الحقيقي بل تكون سببا إضافيا للصمت، فلاذَ الصمتَ في الغربة أضعاف ما كان بالأصل صامتا.
ترك خلفه مدرسة استثنائية في الابداع ، وتجربة فريدة تفيض أصالة ونبلا وصدقا وبُعدَ رؤية. رحل في مقتبل العمر وعز العطاء، وفي جعبته مشاريع نور وتنوير وتاريخ وحاضر وأمل بعد يأس . رحل مثل الكثيرين من أبناء جيله الذين ذرتهم الرياح إلى المنافي البعيدة . فهذا القدر السوري في الإبداع يحاكي القدر العراقي والقدر الفلسطيني ، كل من تلك الاقدار ابن تغريبة الليل الطويل. ليل الحزن العربي الذي أكل الأعمار وأدمى القلوب….
من يعيد لنا رسم تاريخنا ويضيء على آماله وآلامه؟ من يكمل “سقوط غرناطة” الآن بعدك يا حاتم؟ . يكفينا فخرا أن نقول يوما لأولادنا واحفادنا: نحن عشنا في زمن حاتم علي
Views: 4