ليلى نقولا
لا تجد أوروبا نفسها مرتاحة إلى الوقوف في محور أميركي ضد الصين، إذ إن الارتباطات الاقتصادية والتجارية ببكين تبدو كبيرة وواعدة.. ولكن.
بعد غياب طال زمناً، أي منذ ما بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي، أعاد الرئيس الأميركي جو بايدن توجيه الصراع في العالم عبر إعطاء الصراع الجيوبوليتيكي طابعاً أيديولوجياً، وذلك عبر تكريس معادلة “الديمقراطية في مقابل الديكتاتورية”، متَّهماً كلاً من منافستَي الولايات المتحدة في العالم (الصين وروسيا) بأنها ديكتاتورية تحكم بالحديد والنار.
منذ عهد جورج بوش الابن، الذي دمج استراتيجية “الحرب على الإرهاب” الشهيرة في استراتيجية “فرض الديمقراطية” في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، لم يقم أيّ من الرؤساء الأميركيين بمحاولة إعطاء بُعد أيديولوجيّ للصراع على النفوذ في العالم. وقد يعود سبب ذلك إلى فشل القوة الصُّلبة الأميركية في تحقيق “فرض الديمقراطية” بالقوة، الأمر الذي أضعف القوة الناعمة الأميركية إلى حدّ كبير، وأضرّ بهيبة أميركا في الخارج، وخصوصاً في البلدان التي كانت مسرحاً مباشِراً للحرب على الإرهاب، مثل العراق وأفغانستان.
ولم يكتفِ بايدن بإعادة توجيه السياسة الخارجية إلى “كفاح الديمقراطية في مقابل الديكتاتورية”، بل شَخْصَنَ الصراع مع روسيا والصين، عبر اتهام الرئيس بوتين بأنه “قاتل”، وتوجيه الاتهام إلى الرئيس الصيني بأنه لا يملك “عظمة ديمقراطية واحدة في جسده”، معتبراً أن معركته الحقيقية خلال عهده، هي إثبات أن الديمقراطية قادرة على أن تعمل في القرن الحادي والعشرين.
أتى الردّ الصيني عنيفاً، خلال مئوية تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، فلقد قام الرئيس الصيني تشي جيانبينغ بتهديد مَن يريد أن يعتدي على الصين بأنه سيحطّم رأسه عبر جدار فولاذي من 1,4 مليار صيني.
خطاب الرئيس الصيني لم يتطرّق مطلقاً إلى هدف الصين المعلن منذ فترة (التحوّل إلى دولة ديمقراطية تامة بحلول عام 2049)، بل بدا أقرب إلى الخطابات التي كان يُدليها كل من ستالين وماو تسي تونغ خلال الحرب الباردة.
كما ستالين عام 1946، الذي أكد الماركسية اللينينية باعتبارها أيديولوجيا متفوقة ونظام سياسي اقتصادي، على حدّ سواء، وكما اعتبر ماو تسي تونغ أن “الماوية” متفوقة على جميع الأيديولوجيات الأخرى، سواء الرأسمالية الغربية أو الاشتراكية السوفياتية، كذلك فعل تشي جيانبينغ. أعلن تشي أن أيديولوجيا الحزب الشيوعي الصيني هي الأساس، وأن هذه الأيديولوجيا هي التي ستسمح بعودة الصين إلى عظمتها التاريخية، والخروج من تاريخ مشؤوم من الإذلال الذي عرفته منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
أمّا الرد الروسي فجاء واضحاً، عبر استراتيجية جديدة للأمن القومي، وقّعها الرئيس فلاديمير بوتين في 3 تموز/يوليو 2021. وتعبّر هذه الاستراتيجية عن حجم الجدية التي يتعامل بها الروس إزاء التهديدات التي يشكّلها الأميركيون لروسيا في العالم، ورغبتهم في احتوائها.
تمّ بناء الاستراتيجية الروسية الجديدة على الأفكار الواردة في الاستراتيجية السابقة، والتي تمّ توقيعها كقانون في 31 كانون الثاني/ يناير 2015. في تلك الاستراتيجية، أعلن الروس أن بلادهم محاصّرة من جانب أعداء يحاولون الاعتداء على البلاد بأساليب تتراوح بين الضغط العسكري، وصولاً إلى نشر الأفكار الهدّامة للمجتمع الروسي، بينما تذهب الاستراتيجية الجديدة أبعد من ذلك، إذ إنها تتحدّث عن مجموعة أوسع من تهديدات الأمن القومي، بما في ذلك الأمن السيبراني، والأنشطة التي تقوم بها الشركات العالمية الكبرى، و”تغريب الثقافة” الروسية، ومحاولة فرض القيم الأخلاقية الأجنبية من أجل إبعاد الروس عن قيمهم الحضارية الأساسية، وغير ذلك.
بالإضافة إلى التهديدات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية التي يشكّلها “الناتو” والغرب، تتحدّث الاستراتيجية الروسية عن “رغبة الدول الغربية في الهيمنة على العالم” (المادة 7)، ومن ضمنها محاولات “الدول غير الصديقة… استخدام المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في الاتحاد الروسي لتدمير وَحدته الداخلية، والتحريض على القيام بحركة احتجاجية متطرّفة، ودعم المجموعات الهامشية، وتقسيم المجتمع الروسي” (المادة 20 ).
لذا، فإن روسيا “ستقاتل”، ليس فقط ضدَّ المتطرفين الذين يقوّضون النظام الدستوري لروسيا، بل أيضاً ضد أولئك الذين ينشرون النفوذ الغربي في البلاد، بما في ذلك تأثير الغرب، ثقافياً وأخلاقياً. كما يتحدّث الروس عن ضرورة تطوير وسائل المواجهة تجاه “المحاولات المتعمّدة لتقويض القيم التقليدية، وتشويه التاريخ العالمي، ومراجعة وجهات النظر بشأن دور روسيا ومكانتها فيه، وإعادة تأهيل الفاشية، والتحريض على الصراعات بين الأعراق والطوائف”، وحتى تقييد استخدام اللغة الروسية (المادة 19).
وهكذا، يمكن اختصار الصراع العالمي اليوم في السعي نحو الهيمنة، بحيث تحاول الولايات المتحدة تكريس هيمنتها الإمبراطورية على العالم، بينما يتحدّى الآخرون، ويعتزمون العمل ما في وسعهم من أجل إعادة التوازن والتعددية القطبية إلى النظام العالمي. لكنّ الصراع الحالي لا يبدو سهلاً:
– اقتصادياً: لا تجد أوروبا نفسها مرتاحة إلى الوقوف في محور أميركي ضد الصين، إذ إن الارتباطات الاقتصادية والتجارية بالصين، تبدو كبيرة وواعدة. أمّا إذا تمّ تقسيم العالم بين ديمقراطيات وديكتاتوريات تتقاتل لفرض وجهة نظرها، فإنّ من الأسهل على أوروبا أن تقف في معسكر الولايات المتحدة الداعم للديمقراطية من دون تحفّظ.
– بالنسبة إلى روسيا، إن الصراع التاريخي الممتدّ منذ الإمبراطورية القيصرية وصولاً إلى الاتحاد السوفياتي، بات من الماضي، في آلياته القديمة. لكنّ تحويل الأمر إلى محاولة تغيير وتوجيه ثقافيَّين لإحلال الديمقراطية في بلد يجاور أوروبا، ويتقاسم معها الفضاء الطبيعي في عدد من دول شرقي أوروبا ووسطها، فإن ذلك الأمر يستدعي المخاطرة أوروبياً.
لهذا، نجد أن قيام بايدن بإعادة الخطاب الأيديولوجي إلى ساحة العلاقات الدولية، قد يكون هدفه محاولة تكريس تكتّل قوى متجانسة عالمياً، كما كانت الحرب الباردة، لأن صراع النفوذ التقليدي وصراع الجيوبوليتيك لم يعودا كافيَين للتحشيد للسعي نحو هيمنة أُحادية. فهل تنقاد أوروبا إلى البُعد الأيديولوجي؟ يبدو الجواب: نعم، بحذر.
المصدر: الميادين نت
Views: 0