أهم الدروس هي للمتعاونين مع المحتل وأصدقائه بأنَّ التُربة الحُرة لن تقبلهم، وسيظلون هاربين في أرجاء الأرض مقابل خيانتهم لوطنهم ودينهم وتاريخهم.
سيسجّل التاريخ الإنساني يوم الأحد الموافق 15 آب/أغسطس 2021م، باعتباره يوم هزيمةٍ نكراء تجرَّع فيه حِلف شمال الأطلسي كُلّه بقيادة الولايات المتحدة الأميركية كأس الهزيمة المُر، وستبقى مرارته عالقة في نفسيات القادة السياسيين والعسكريين الغربيين وذهنياتهم لعقودٍ طويلة قادمة.
سيتذكَّر العالم بِرمَّته هذا اليوم، وهذا التاريخ بالذات، وأنَّ محطة جديدة إضافية من محطات الهزائم والنكسات التي صاحبت مسيرة “الإمبراطورية الأميركية” أضيفت إلى نكسات وهزائم في حروبٍ سابقة في فيتنام وكوريا والصومال والعراق ولبنان.
وكما هو حال الأحداث العظيمة التي حلَّت بالتاريخ الإنساني، والتي ينقسم حولها المفكرون والمنظرون والمحللون من الإعلاميين والسياسيين، تجد أن القِسم الأول يتشفى بفرحٍ عامر لمشاهدة سيناريو الهزيمة التي تُلطِّخ جبين الحِلف العسكري الأكبر على مستوى العالم، وأن ثمة قسماً ثانياً يتألم حسرةً لما آلت إليه النتائج بعد مضي 20 عاماً تقريباً على غزو الأراضي الأفغانية واحتلالها من قِبل حلف الناتو العسكري.
لقد كان يوم الأحد، ومُنذ الصباح الباكر، بكلّ ساعاته ودقائقه الثقيلة، محط اهتمام وسائل الإعلام الغربية العالمية الوازنة، ومعها الوسائل الإعلامية العربية والإسلامية، التي كانت تنقل مشهد الهروب المُخزي لطاقم الموظفين السياسيين والدبلوماسيين عبر الطائرات المروحية من الساحة الخضراء في العاصمة كابول، حيث تتواجد السفارات الغربية، والتي لا تبعد عن مطار كابول الدولي سوى بضعة كيلومترات معدودة.
ومع ذلك، إنَّ حركة المروحيات لم تتوقَّف جيئةً وذهاباً، وكانت تنقل طواقم السفارات إلى المطار حاملين الخفيف من أمتعتهم اليدوية ووثائقهم الأساسية، وكما يقول المثل الشعبي، “أخذ ما خف وزنه وغلي ثمنه”، لأنَّ طلائع المقاتلين الأفغان من جماعة “طالبان” بدأوا الزحف على العاصمة كابول من جميع الاتجاهات.
من بين المغادرين عبر المطار هو سفير الولايات المتحدة الأميركية، كآخر رمز من رموز الهزيمة المدوية. وقبلها بساعاتٍ معدودة، أقلعت طائرة الرئيس الأفغاني أشرف غني، وهو الصديق الصدوق للأميركيين، وبرفقته كبار أعوانه من أركان حُكمه، رغم أنَّه ألقى خطاباً حماسياً قبل يومٍ واحد في القصر الجمهوري، وقال ما معناه إنهم سيدافعون ويقاتلون عن أفغانستان والشعب الأفغاني، ولو بقوا يقاتلون لوحدهم في القصر الجمهوري. مثل ذلك الخطاب الأجوف ألِفنا سماعه مراراً من ساسة عرب ويمنيين، وما زال مُوثقاً في سجلات التاريخ المعاصر.
أبرز الدروس المستقاة من حدث التجربة الأفغانية
أولاً: دأب الرئيس الأميركي جو بايدن على القول في الأسابيع الأخيرة إنَّهم يرتبون لنقل المترجمين إلى بلدان عديدة، حتى يُؤَمِنوا لهم الإقامات اللازمة في الولايات المتحدة الأميركية. وهُنا يُقصد بطبيعة الحال تلك الجماعات المتعاونة معهم من العُملاء والمرتزقة الأفغان، لأنَّ بقاءهم في البلاد يُعرِّضهم للانتقام والمحاسبة من قبل الشعب الأفغاني، وهو درس لجميع العُملاء والمرتزقة في العالم أجمع، ومنهم المرتزقة اليمنيون.
ثانياً: أية تُربة وطنية حُرة في العالم لا تقبل أي مُحتل، مهما كانت قوته وجبروته. ولذلك، إنَّ القواعد الأطلسية وجنودها من الأميركيين والبريطانيين والألمان والفرنسيين والإيطاليين، ومن بقية أعضاء الحِلف، أصبحوا مطرودين حاملين خسائرهم المادية والبشرية، وكذا جرحاهم. كُل ذلك سيبقى وجعاً دائماً في ضمير شعوب تلك البلدان المُعتدية على أفغانستان وشعبها المسلم.
ثالثاً: يتذكَّر العالم أجمع أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، أثناء تدمير بُرجي التجارة في نيويورك، والتي راح ضحيتها قرابة 3000 إنسان وأكثر، وتمَّ تحميل تنظيم “القاعدة” وجزء من “طالبان” هذا الفعل المتهور، لكن أنْ تأتي أميركا بقضها وقضيضها مع حلف الناتو، ويغزوا الدولة والبلد الأفغاني بقوة الحديد والنار في العام 2001م، دونما أدلة ثابتة على تورط حركة “طالبان” في الأحداث، فهذا هو قِمّة الصلف والعجرفة والتكبر، من دون أدنى اعتبار للإنسان والمجتمع الأفغاني بِرُمَّته. وقد مارسوا أثناء غزوهم أبشع أنواع الجرائم بحق المواطنين الأفغان. ولذلك، إنَّ الدرس المهمّ هُنا هو هزيمتهم وهزيمة مشروعهم الاستعماري الوقح.
رابعاً: طريقة التفكير الغربي المتعالي لم تتغير مع مرور الزمن، وهي مُحاولة لإخضاع الشعوب والأمم الحُرة بالأسلوب ذاته والطريقة ذاتها. ولذلك، تجدهم يُكرِّرون أخطاءهم كمنظومة سياسية ثقافية رأسمالية ليبرالية غربية. ما حدث في كابول تكرر في سايجون وهوشي منه ومقديشو.
خامساً: تكبَّد حلف شمال الأطلسي خسارة الآلاف من جنوده بين قتلى وجرحى ومفقودين، مع عتاد عسكري هو الأكثر تطوراً على مستوى العالم، وخسر الشعب الأفغاني من مقاومته ومواطنيه أضعاف تلك الأعداد. وبانهزام الحِلف اليوم، ترك بلداً مُمزَّقاً فقيراً تنعدم فيه وسائل الحياة العصرية، وهذا حال الغُزاة على مدار التاريخ، لكن تظل قيمة الحرية التي استعادها الشعب الأفغاني خير قيمة وأعظم دلالة في المشهد بِرُمَّته.
سادساً: بدءاً من اليوم الإثنين وما بعده، يقع على عاتق قيادة حركة “طالبان” استيعاب المتغيرات على المستوى الاجتماعي المحلي والمستوى الدولي لدول الجوار، وعليها استيعاب تحديات المرحلة القادمة لحُكم البلاد وفقاً للقانون، والتوافق مع جميع القوى السياسية والاجتماعية، وحتى المذهبية. هكذا تُدار الدول والحكومات. أما الانفراد بالسلطة واحتكارها، فنتائجه ستكون وخيمة، والتعلم من دروس 20 عاماً وما قبلها هو المحك للحركة وتوجهاتها المستقبلية.
سابعاً: أهم الدروس هي للمتعاونين مع المحتل الغازي وأصدقائه بأنَّ التُربة الحُرة لن تقبلهم، وسيظلون هاربين في أرجاء الأرض مقابل خيانتهم لوطنهم ودينهم وتاريخهم.
الخلاصة: يُنبئنا التاريخ الإنساني، ومُنذ فجر التاريخ، بأنَّ مصير الغُزاة الأجانب لبلدان غيرهم هو الفشل، حين يعود ذلك الغازي إلى بلده مهزوماً مكسوراً مُنكس الرايات، يرافقه المرتزقة الذين قبلوا أن يكونوا تابعين له.
المصدر: الميادين نت
Views: 1