أولوية أنقرة في أفغانستان تتعدّى حدود استقرارها، وهي ترمي إلى التعاون مع بلدان آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، وتثبيت قدميها في تلك البلدان، عبر مقولة محاربة الإرهاب.
لتركيا علاقات تاريخية وثقافية وإثنية بأفغانستان. ويعود أول “اتفاق تحالف” بين البلدين إلى عام 1921. عملت تركيا عام 1930 على دعم التحديث فيها، ووقفت ضد الاجتياح السوفياتي في عام 1979. وخلال الحرب الأهلية في عام 1990، دعمت “حزب الجونبيش” الأوزبكي وزعيمه عبد الرشيد دوستم، الذي هرب إلى أنقرة بعد تولّي “طالبان” السلطة عام 1996.
ازداد تورّط أنقرة في أفغانستان، على نحو كبير، بعد الغزو الأميركي عام 2001، والذي أدّى إلى انهيار نظام “طالبان”، إذ نشرت تركيا قواتها في أفغانستان كدولة عضو في “الناتو”، عام 2002. ومع تولي حزب “العدالة والتنمية” الحكم، عزّزت وجودها العسكري هناك. ومنذ ذلك الحين، وهي تتمتّع بوجود عسكري قويّ هناك. وهي الدولة الوحيدة العضو في “الناتو”، ذات الأكثرية المسلمة، والتي لديها جيش في أفغانستان.
وكجزء من “الناتو”، لم تقلّل أنقرة عدد قواتها في هذا البلد عام 2014، بل أخذت دوراً أكثر بروزاً في مهمة تدريب “الدعم الحازم”. وفي عام 2015، قال الرئيس إردوغان إنه يمكن أن يكون لتركيا وجود عسكري طويل الأمد في هذه الدولة، المجاورة للصين وإيران وباكستان وعدد من دول آسيا الوسطى.
حدّدت أنقرة سياستها الخارجية تجاه أفغانستان، مركِّزة على أربعة أهداف:
المحافظة على الاستقرار السياسي والوحدة في البلاد؛ تعزيز الهياكل والمؤسسات السياسية القائمة؛ دعم استقرار البلاد وبيئتها الأمنية؛ استعادة السلام والازدهار من خلال القضاء على الإرهاب والتطرّف.
قدّمت تركيا مساهمة مالية كبيرة إلى أفغانستان، على المستوى الثنائي، ومن خلال الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي. منذ عام 2001، استثمرت تركيا ما يقدَّر بنحو 1.1 مليار دولار في الأمن والصحة والتعليم والبنية التحتية، حتى أيار/مايو 2019، حتى إنها صرّحت بأنه يمكنها المحافظة على هذا الدعم، أو زيادته.
طموحات تركيا في أفغانستان
أولوية أنقرة في أفغانستان تتعدّى حدود استقرارها، وهي ترمي إلى التعاون مع بلدان آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، وتثبيت قدميها في تلك البلدان، عبر مقولة محاربة الإرهاب. أحد طموحاتها أيضاً كان أداء دور الوسيط في عملية السلام بين الحكومة الأفغانية و”طالبان”. وكان المبعوث الأميركي، السفير زلماي خليل زاده، زار أنقرة أكثر من مرة في العام الماضي، للتنسيق بين باكستان وقطر وتركيا، التي أسست علاقات بالجماعات السياسية على مر السنين، ولاسيّما مع رشيد دوستم، الذي يتمتع بالدعم التركي، وهو انضمّ إلى اثنين من أمراء الحرب الأفغان السابقين – عطا محمد نور، الحاكم القويّ لمحافظة بلخ الشمالية، ومحمد محقق، نائب الرئيس التنفيذي الأفغاني عبد الله عبد الله – وشكّلوا تحالفاً ضد الرئيس الأفغاني أشرف غني. وبالرغم من العلاقة التي نسجتها تركيا بالرئيس الأفغاني، فإنها عزّزت اتصالاتها بقيادة “طالبان” في السنوات الأخيرة.
لم يُخفِ الرئيس إردوغان طموحاته بشأن زيادة نفوذ بلاده بين الدول الإسلامية، إيران والسعودية وباكستان، فاستضافت تركيا سلسلة من المؤتمرات بشأن الأزمة الأفغانية في السنوات القليلة الماضية، كما حثّت كلاً من أفغانستان وباكستان على حل خلافاتهما، والعمل من أجل السلام والاستقرار الإقليميين. ودعت “طالبان” إلى الدخول في محادثات سلام مع الحكومة في كابول، لكنها لم تنجح في التقريب بين إسلام آباد وكابول، ولا إقناع “طالبان” في إجراء مفاوضات مع الحكومة الأفغانية.
بدت سياسة تركيا تجاه أفغانستان أكثر طموحاً مما تبدو عليه. اعتقد إردوغان أن اتفاق سلام بوساطة تركيا في أفغانستان من شأنه أن يرفع مكانته في “الناتو”، وفي العالم الإسلامي أيضاً. كان يريد من أعضاء “الناتو” الاعتراف بأنه لا يمكنهم تحقيق أيّ نجاح في أفغانستان بدون مساعدة أنقرة، فتركيا يمكن أن تكتسب نفوذاً سياسياً، تمارسه على حلفائها الأوروبيين، من خلال استخدام نفوذها في أفغانستان لتحقيق أهداف “الناتو” في الحرب. كان متوقَّعاً أن تؤدّي دوراً نشِطاً في عملية السلام الأفغانية، وتفتح صفحة جديدة في العلاقة بينها وبين واشنطن، واعتبرت ان السلام والاستقرار في أفغانستان يعتمدان على الإدارة الناجحة لتوازنات القوى المحلية والدولية.
سقوط كابول السريع في يد “طالبان” يفاجئ تركيا
حاولت تركيا أن تستفيد من علاقتها بباكستان والاستخبارات الباكستانية، وكذلك من علاقتها بالجهات الأفغانية الفاعلة، لكنها فوجئت بسيطرة “طالبان” على كابول، ورحيل الولايات المتحدة في وقت أبكر من المتوقَّع من أفغانستان. كانت أنقرة تستعدّ لدور الوساطة المطلوب بين “طالبان” والغرب، وتولّي مهمة إدارة مطار كابول، بمجرد أن تكمل قوات “الناتو” انسحابها. بقي جنودها هناك. لم يقتنع الرئيس التركي برفض “طالبان” تولّي تركيا أمنَ مطار كابول، وقال إنه سيذهب شخصياً للاجتماع بقادتها. سعت أنقرة إلى التوسّط مع قطر من أجل تعزيز الاتصالات الدبلوماسية التي أقامتها مع الجناح السياسي لـ”طالبان”، عبر باكستان، بحيث قام وزير الدفاع خلوصي آكار بزيارتها مع وفد رفيع المستوى، بالإضافة إلى كبار رجالات الاستخبارات.
تُعتبر باكستان إحدى الدول الرئيسية بالنسبة إلى قضية أفغانستان، بسبب حدودها معها التي يبلغ طولها 2400 كيلومتر. وتتمتع بنفوذ فيها، ولاسيما وحدات المكاتب العسكرية والاستخبارية الباكستانية، التي لديها تأثير كبير في “طالبان”. ويرى كثير من الخبراء أنه لا يمكن التوصل إلى حل دائم للقضية الأفغانية من دون موافقة باكستان. وهذا الوضع يزيد في أهمية العلاقة الوثيقة بين تركيا وباكستان. وفي هذا الصدد، يمكن للعلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وإسلام آباد أن تُحدث فارقاً في إرساء السلام والاستقرار في أفغانستان.
كانت تركيا تعتقد أنها الدولة الأكثر قبولاً بشأن إرسالها قوات إلى أفغانستان بصفة مراقب، وكانت تراهن على أن “طالبان” والجماعات المعارضة الأخرى، والتي ترفض بشدة وجود القوات الأميركية أو قوات دول أخرى في أفغانستان، قد تقبل وجودَ قوة حفظ سلام بقيادة تركيا. وردّ المتحدث باسم “طالبان” سهيل شاهين على إصرار إردوغان على أداء دور في أفغانستان، بالقول “إن تركيا لاعب مهم للغاية بالنسبة إلى طالبان، وإنها دولة محترمة وقوية في العالم، ولها مكانة خاصة بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي. ولا يمكن مقارنة علاقة تركيا بأفغانستان بأيّ دولة أخرى”. لكنْ، يبدو أنه حدّد دورها بالإعمار، وأردف بأن البنية التحتية انهارت بالكامل بسبب الاحتلال وإدارة الحكومة الأفغانية، وأن “طالبان” “تريد التعاون مع تركيا في مجالات الصحة والتعليم والاقتصاد والبناء والطاقة، فضلاً عن معالجة الموارد الجوفية.” وأضاف أن “أكبر توقّعاتنا من أشقائنا الأتراك أن يؤدّوا دوراً نشطاً في المجالات التي قمنا بإدراجها بعد ضبط توازننا الداخلي بالكامل”.
تركّز استراتيجية إردوغان على كسب نفوذ في الحكومة المقبلة، عبر شخصيات أفغانية قريبة إليها، ومنهم قلب الدين حكمتيار وصلاح الدين رباني، زعيم حزب الجماعة الإسلامية، والذي أدّى دوراً في مؤتمر إسطنبول للسلام، ورفضت “طالبان” حضوره. والاثنان عملا على إقناع “طالبان” بأن تكون هناك مصالحة في البلاد، عبر تبنّي حكومة انتقالية.
ونظراً إلى علاقتها التاريخية والعرقية بالأوزبك والطاجيك من جهة، وبأفغانستان كحكومة من جهة أخرى، تعتقد أنقرة أن هناك بصيص أمل في استعادة العلاقة بالولايات المتحدة، عبر دورها كوسيط، وتقديم خدمات إلى واشنطن، التي تريد علاقات طبيعية بكابول. وبذلك، تقايضها بسياسات العقوبات التي تهدّدها بها، أو يمكنها أن تلجأ إلى طلب المساعدات الاقتصادية من أوروبا، ولاسيما أن قضية اللاجئين الأفغان ستطرح مشكلة للأوروبيين.
نجاح العلاقات الخارجية مهم لإردوغان أيضاً في الداخل، وكذلك الخطاب القومي الذي يمكنه أن يتعزّز في ظلّ العلاقات بدول آسيا الوسطى عبر أفغانستان. اقتصادياً، تبدو الأمور سهلة بالنسبة إلى الشركات التركية، بعد أن عانت الحكومة مؤخراً بسبب تقصيرها في موضوعَي الفيضانات والحرائق، وتريد الاستفادة من أفغانستان. وهي فرصة لها، وستكون لها حصّة إلى جانب حصص الدول المحيطة بأفغانستان، إلاّ أنّ كل المكتسبات التي تريدها تبدو وقفاً على تشكيل “طلبان” حكومتها، وتحديد سياستها.
المصدر: الميادين نت
Views: 4