إنّه انقلابٌ عسكريٌّ “مُفَبركٌ” في السودان.. وهذه أدلّتنا الدّامغة.. ما هي الأخطاء الكارثيّة الثّلاثة التي ارتكبها الجِنرالات وأوصلت البِلاد إلى هذا الانهِيار الكامِل؟ وما هي توقّعاتنا للمرحلة المُقبلة؟
عبد الباري عطوان
أفقنا هذا الصّباح على إعلان الحُكومة السودانيّة عن إحباط “مُحاولة انقلابيّة” مُتّهمةً ضُبّاطًا من فُلول النظام البائِد بتنفيذها، في إشارةٍ إلى نظام الرئيس المخلوع عمر البشير الذي يقبع حاليًّا في سجن كوبر، تمهيدًا لتسليمه لمحكمة الجنايات الدوليّة بتُهمة مسؤوليّته عن ارتكاب جيشه جرائم حرب في إقليم دارفور.
مُنذ أن نقل السودان، وفي أواخِر أيّام حُكم الرئيس البشير، البُندقيّة إلى كتف المُعسكر الأمريكي، وأحوال السودان تسير من سيء إلى أسوأ، ووصل هذا السُّوء ذروته بلُجوء النّظام العسكري الحاكم في الخرطوم حاليًّا إلى مُغازَلة دولة الاحتِلال الاسرائيلي، وتوقيع مُعاهدة “سلام أبراهام” التطبيعيّة معها.
المعلومات الواردة حول هذا الانقِلاب، شحيحة، ومن مصدر واحد، هو الحُكم العسكري والنّاطق باسمه، باستِثناء أنباء اعتقال 11 ضابطًا وبعض الجُنود مثلما جاء في بيانٍ للسيّد حمزة بلول، وزير الإعلام والثقافة، وتسريبات عسكريّة أُخرى تُؤكّد أنّ بعض الانقِلابيين ينتمون إلى سلاح المُدرّعات.
صحافي سوداني صديق ومهني، يتواجد حاليًّا في الخرطوم، أكّد لنا في اتّصالٍ هاتفيّ، أنّ هذا الانقِلاب “مُفَبْرك” مثله مثل سبع انقِلابات سبقته أعلن عنها النظام العسكري نفسه، وأنّ من أعلن عنه هو محمد الفكي سليمان، عُضو مجلس السّيادة، وطالب النّاس بحِماية الثّورة ولم يَخرُج مدني واحِد لتلبية هذا النّداء، والظّاهرة اللّافتة في جميع هذه الانقِلابات أنّه لم يُقَدَّم جِنرال واحِد إلى المُحاكمة وإدانته بالتّالي.
مُعظَم الانقِلابات العسكريّة في السودان شملت حملات اعتِقال مُوسّعة، ونُزول دبّابات إلى الشّوارع، وأصوات إطلاق رصاص، باستِثناء هذا الانقِلاب الذي تمّت السّيطرة عليه في ساعاتٍ معدودة، وعادت الحياة إلى هُدوئها الطّبيعي في أقلّ من أربع ساعات.
قبل أيّام معدودة، من الإعلان عن هذا الانقِلاب، تحدّثت صُحف ومواقع سودانيّة بإسهابٍ عن احتِمال حُدوث انقلاب في البِلاد، وقال محمد الفكي سليمان في تصريحٍ مُوثّق له، قبل يومين “إنّ المرحلة الانتقاليّة أصبحت مُهَدَّدةً من خِلال النّشاط المُتزايِد لفُلول الحزب المَحلول من داخِل وخارج الدّولة”، أمّا بعض شباب الثّورة السوداني فقد تحدّثوا، وحذّروا من احتِمال قِيام الجيش السوداني نفسه بمُحاولةٍ انقلابيّة لمنع انتِقال مجلس السّيادة من قبضة العسكر إلى المدنيين في تشرين الثاني (نوفمبر)، حسب الاتّفاق المُوقّع بين الجانبين.
السودان يعيش حالةً من الفوضى غير مسبوقة، فالسّلاح مُنتَشِر “وعلى قفا مين يشيل”، والمُجتمع السوداني يعيش حالةً من الاحتِقان مَرفوقةً بالجُوع وانعِدامِ الحدّ الأدنى من الخدمات العامّة، وتفشّي الجريمة والمخدّرات والانفِلات الأخلاقي، وحالة التمرّد تنتشر في أكثر من ولاية في الشّرق والغرب والشّمال والجنوب، وميناء بور سودان مُغلَق، وحُدود مُلتَهبة مع مُعظم دول الجِوار، وحرب شبه حتميّة مع الجار الأكبر إثيوبيا بسبب عدم التّوصّل إلى أيّ حَلٍّ سلميٍّ لأزمة سدّ النهضة.
جِنرالات السودان، وورثتهم الحاليّون، ارتكبوا ثلاث خطايا استراتيجيّة كارثيّة كانت خلف حالة الانهِيار التي تعيشها البِلاد حاليًّا:
-
الأولى: الوقوع في مِصيَدة الأكاذيب الأمريكيّة والتّوقيع على اتّفاقٍ بانفِصالِ الجنوب مُقابل إنهاء مُعاناة السودان والسودانيين.
-
الثانية: تفريغ الجيش السوداني من كُلّ قيمه الأخلاقيّة والعسكريّة والوطنيّة، وتحويل قِطاعٍ عريضٍ مِنه إلى ميليشيات، والزّج بِها في القِتال إلى جانب التّحالف السعودي الإماراتي في حرب اليمن.
-
الثالثة: توقيع اتّفاقات تطبيع سياسي وأمني مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي مُقابل وعود برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وتدفّق مِليارات الدولارات وحلّ أزَماته الاقتصاديّة الطّاحنة.
جميع هذه الوعود لم تتحقّق باستِثناء رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكيّة، وآلاف من الجُنود السودانيين الذين ذهبوا إلى جبهات القتال في اليمن عادوا في التّوابيت، وسط تكتّم شديد، وذهاب ملايين الدّولارات إلى جُيوب الجِنرالات، وبات السودان يُواجِه التمرّد في الكثير من الولايات، أمّا قِيادة الجيش السوداني وجِنرالاته فمَشغولةٌ في الصّراعات البينيّة، والاستِئثار بالنّفوذ، ونهب المال العام.
***
السودان يَقِف أمام خِيارين: الأوّل عودة الثّورة الشعبيّة وبزَخمٍ أكبر عن السّابقة، أو انقِلابٍ عسكريّ حقيقيّ ومُوَسَّع على غِرار انقِلاب الجِنرال سوار الذهب عان 1985، يضع حدًّا للحالة المُزرية التي تعيشها البِلاد، ووضعها على طريق الديمقراطيّة والبرلمان المُنتَخَب.
الشّراكة بين العسكر والمدنيين شراكةُ مُؤامرات، وكُلّ طَرفٍ يَمكُر للآخَر، المدنيّون في مُختلف أنحاء السودان لا يكنّون أيّ حُب للعسكر، والهُويّة السودانيّة الجامعة تنهار، والحُكومة ومُؤسّساتها غائبة، والمُستقبل قاتِمٌ، بل مُتَفَجِّرٌ، حسب رأي أكثر من شخص اتّصلنا به في الخرطوم وخارجها.
حالة الفوضى العسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة الحاليّة التي تعيشها البِلاد لا يجب أن تستمرّ رحمةً بالشّعب السوداني الأصيل وإرثه التّاريخيّ الوطنيّ المُشَرِّف.
Views: 3