دفعت الأزمة الاقتصادية وغلاء المحروقات بكثيرين للّجوء الى حطب التدفئة بدلاً من المازوت. أدى ذلك إلى مجزرة بيئية قضت على عشرات آلاف الأشجار في مناطق مختلفة، وخلقت سوقاً سوداء للحطب تتحكّم بها مافيا تتمتع بنفس مواصفات مافيا المحروقات في الانتشار والنفوذ والسطوة، حتى لحق سعر الحطب بأسعار المحروقات، ولم يعد هو أيضاً في متناول الفقراء
«حرب إبادة» تُشنّ على الأحراج من دون حسيب أو رقيب. الحرائق التي التهمت آلاف الهكتارات الصيف الماضي، ويتوقّع أن تلتهم آلافاً أخرى في ما تبقّى من هذا «الموسم»، جاءت أزمة المحروقات لـ«تساندها» في تقليص ما تبقى من مساحات خضراء. وإن كان قطع الأشجار ليس جديداً، إذ ينشط تجّار الفحم والخشب في كل موسم في قطع الأشجار عشوائياً، إلا أن الأزمة الاقتصادية «رفدتهم» بالفقراء من سكان الجبال والمناطق الداخلية الذين لجأوا إلى اعتماد التموّن بالحطب للتدفئة، في ظل غلاء المازوت الذي بات يُباع بالدولار الـ«فريش». وبحسب التقديرات، فإن معدل استهلاك المازوت في فصل الشتاء لكل بيت في البقاع أو عكار أو الجبل لا يقل عن ألف ليتر (5 براميل، يصل سعر الواحد منها الى نحو 3 ملايين ليرة أي 15 مليوناً)، فيما يكلّف طنّ الحطب نحو مليوني ليرة، ويبلغ معدل استهلاك كل بيت نحو 5 أطنان أي نحو 10 ملايين ليرة.
وإلى الفقراء، تنشط مافيات تتستّر بالوضع المعيشي في قطع الأشجار، فيما الدولة غائبة بكل أجهزتها وعاجزة، ورقابة مأموري الأحراج غير متاحة بسبب نقص المازوت الذي يمنع تحريك الآليات.
أشجار معمرة قضى عليها القطع العشوائي في مناطق عدة، وخصوصاً في عكار. وسجل حتى الآن، بحسب ناشطين بيئيين، قطع نحو 100 ألف شجرة صنوبر في مناطق وادي جهنم وحرار والضهر وأبو شعيب في عكار، ومنها مناطق لم تشهد أي حرائق. وفي جرد القلّة، بين الهرمل، وعكار «أُعدمت» مئات من أشجار الشوح واللزاب. وكذلك الأمر في راشيا حيث قطعت أعداد كبيرة من أشجار السنديان واللزاب المعمّرة بهدف التجارة. ورصدت فرق الكشف الفني التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني قطع عدد من الأشجار المعمرة وتقطيعها في الأملاك النهرية وبعض الأملاك الخاصة، وعملية ممنهجة لقطع الأشجار في أعالي الأحراج المطلّة على نهر الليطاني من دون تدخل من أي سلطة محلية أو مركزية. ورُصدت كذلك في البقاعين الأوسط والغربي عملية قطع لأشجار الحور والأشجار الصمغية بشكل واسع. وقدرت المصلحة المساحات المتضررة بحوالى 100 ألف متر مربع على طول الحوضين الأعلى والأدنى، تضم أكثر من 20 ألف شجرة معظمها مصابة بقطع جذعي يصعب معها إعادة إنمائها.
يحمّل عثمان طالب، من مجموعة «درب عكار»، «الدولة» مسؤولية دفع الناس إلى هذا الخيار، إذ «لم تؤمن عملاً ولا دعمت مازوت التدفئة، لذلك يستحيل منع الناس من تدبر أمورهم على باب فصل قارس تتجمد فيه قساطل المياه ويمتد حتى 6 أشهر. الناس هنا تقول: الإنسان أبقى من الشجر والحجر، لأن التدفئة شرط من شروط البقاء، ما يقضي على أشجار عمرها آلاف السنوات بضربة منشار».
مدير التنمية الريفية في وزارة الزراعة شادي مهنا لفت إلى أن البعض يبرر قطع الأشجار كونها احترقت، في حين أن أغلب الحرائق وقعت في مناطق جبلية ذات منحدرات قوية، و«من الضروري الإبقاء على هذه الأشجار المحترقة لسببين: أولهما أننا لا نعرف ما إذا كانت الشجرة قد احترقت كلياً لأن بعض الأشجار تسودّ فقط من الشحتار ويمكن أن تفرخ من جديد في الربيع، وثانيهما هو أنه حتى لو ماتت الشجرة كلياً فإن بقاءها ضروري لمنع انجراف التربة عند هطول الأمطار. وهذه قاعدة أساسية لإعادة الإنبات، لأنها تحفظ البذور الموجودة في التربة من الانجراف، حتى لا نفقد الأمل بأن تعيد الغابة تكوين نفسها من جديد».
في الإطار القانوني، تمنح وزارة الزراعة رخص التشحيل والتفريد ورخص الفحم طوال الفترة الممتدة من 14 أيلول حتى 15 نيسان وتسمى رخص استثمار، يكلف مراقبتها حارس أحراج. وكل قطع من دون رخصة مخالف للقانون يعاقب عليه. و«تشجع الوزارة على تشحيل أشجار السنديان والعفص والملول وهي أشجار ورقية تتجدد بسهولة إذا جرت عملية القطع بطريقة فنية وبالمواصفات التي تحددها الوزارة، لكن ما يجري هو قطع للأشجار الصمغية كأنواع السنديانيات والصنوبريات، وأحياناً يقطع شجر الأرز واللزاب والشوح وهي أشجار نادرة»، بحسب مهنا.
ووفق الناشطين البيئيين، فإن بعض من يحصلون على رخص التقليم من وزارة الزراعة يقطعون أشجار الأحراج بدلاً من تقليمها بسبب غياب الرقابة، و«ثمة مناطق هي مشاعات للدولة زوّرت على أنها أملاك خاصة من قبل المخاتير لأغراض انتخابية يجري فيها القطع في ظلّ غياب تام لوزارتي الزراعة والبيئة».
مهنا يلفت الى «مشكلتين أساسيتين» في ضبط المخالفات، أولاهما أن «القضاة يتساهلون كثيراً في مثل هذه القضايا، وأن الغرامات المالية لم تعد رادعة كما قبل سنتين، حين كانت غرامة ضبط طن الحطب المخالف تبلغ مليوني ليرة أي عشرة أضعاف سعره يومها. لذلك، يُفترض رفع الغرامات تماشياً مع ارتفاع الأسعار لتكون رادعة». والمشكلة الثانية هي ضعف الإمكانيات لدى حراس الأحراج، «فضلاً عن قلة عددهم أساساً، فإن آلياتهم فارغة من المحروقات ولا تخضع للصيانة اللازمة».
المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية يؤكد أن هذه الظاهرة «وجه من وجوه استغلال الأزمة وليست أثراً من آثارها، كون معظم المعتدين من تجار السوق السوداء الجديدة للحطب بعد المحروقات. ويمكن القول إن مافيا الحطب تتمتع بنفس مواصفات مافيا المحروقات في الانتشار والنفوذ والسطوة». ويلفت الى أنه حتى سعر الحطب لحق بأسعار المحروقات، ولم يعد في متناول الفقراء الذين لم يتدبر معظمهم أمر التدفئة حتى الآن، إذ إن طن الحطب وصل إلى 3 ملايين و200 ألف ليرة، ولذلك «بلقوط هؤلاء أغصان البساتين ويجمعون قناني البلاستيك والكرتون لرميها في الموقدة وينتظرون الجمعيات والأحزاب، علّها تمنّ عليهم بالمازوت»، بحسب ناشط بيئي في عكار
Views: 2