هل لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي أن تحتفل بمرور مئة يوم على تشكيلها، كما اعتادت الحكومات المتعاقبة أن تفعل، باعتبار أن الأيام المئة الأولى من عمر الحكومات تمثل في غالبية الأحيان فترة سماح وتفهّم لأيّ فريق حكومي جديد؟ طبعاً لا تنطبق هذه المعادلة على حكومة ميقاتي التي تحوّلت بعد شهر على تأليفها الى تصريف الاعمال، فتعطلت جلساتها، وتعطل أيّ إنجاز يمكن أن تفكر في وضعه في رصيدها، ما دفع رئيس المجلس نبيه بري الى التحذير من الأسوأ الذي ينتظر البلاد إذا استمر الوضع على ما هو عليه ولم تُتّخذ إجراءات تعالج الأزمات.
لم يكن غريباً من رئيس الحكومة القول من قصر بعبدا إن حكومته ماشية ولكن مجلس الوزراء مش ماشي، وهو المدرك للتخريب الذي تعرّضت له حكومته في اول انطلاقتها وضمن فترة سماح لم تتسنَّ لها، بعدما سقطت أمام أول مطبّ سياسي واجهته في قضيّة تنحية المحقق العدلي بطلب من “الثنائي الشيعي”.
هذا الواقع التعطيلي الذي تعرّضت له حكومة ميقاتي وعجز رئيسها “مدوّر الزوايا”، كما وصفه رئيس الجمهورية عند تكليفه، عن تدوير أيّ زاوية من زوايا الأزمات المتتالية التي تدفقت الواحدة تلو الاخرى عليها، دفع ميقاتي الى مخارج موازية ما دامت المشاكل التي تمثّل جوهر الأزمة في لبنان عصيّة على الحلّ، فذهب بدلاً من الاعتكاف والزعل، الى تفعيل اللجان الوزارية والعمل على الملفات العالقة، تأميناً لجهوزيتها عندما تدق ساعة الحلّ ويُفرج المعطلون عن الحكومة.
ولكن، هل نجحت خطة ميقاتي أم وقعت أسيرة العجز عن اتخاذ القرارات في ظلّ غياب القرار السياسي، والتباينات الواضحة في مقاربة تلك الملفات، كما هي الحال مثلاً مع التدقيق الجنائي العالق بين شركة التدقيق والمصرف المركزي، أو السياسة الخارجية ولا سيما مع دول الخليج التي لم تشهد أيّ خرق يعيد فتح أبواب الخليج، بحيث لم تفلح وساطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأبعد من وقف الاستمرار في الإجراءات التصعيدية، أو كما هي الحال أيضاً مع الأزمة المالية والنقدية ووضعية حاكم المصرف المركزي المختلف عليها بوضوح بين مؤيّد لبقائه في موقعه في ظلّ غياب التوافق على البديل، وبين مصرّ على “قبعه”، كما هي الحال تماماً بالنسبة الى المحقق العدلي الذي لا تزال مسألة “قبعه” أزمة الأزمات!
في أوساط رئيس الحكومة والدوائر المحيطة به، ورشة التحضير مستمرة إن على مستوى التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي يتولاه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي بخطوات ثابتة، انطلاقاً من خبرته في هذا المجال، ولا بدّ من التذكير بأن الشامي عمل مستشاراً لفترة في وزارة المال الى جانب الوزير السابق غازي وزني، وهو على اطلاع ومتابعة عن قرب لكل الملف المالي والنقدي والاقتصادي. كذلك الأمر بالنسبة الى وزير المال يوسف خليل الذي أنجز مشروع موازنة السنة المقبلة، وقد ضمّنها الرؤية أو التصوّر المتفق عليه مع صندوق النقد، باعتبار أنها جزء أساسي من أيّ برنامج مقبل مع الصندوق، ولا بدّ من أن تحظى بنودها وتوجهاتها برضاه وقبوله. والعمل كذلك جارٍ عند الشامي على الخطة الاقتصادية، وقد باتت في مراحلها الأخيرة، فيما ليس مستبعداً أن يقرّ المجلس النيابي مشروع الكابيتال كونترول بصيغته الراهنة رغم كل الملاحظات والاعتراضات عليه.
ولكن، إن كانت كل هذه الأمور سالكة على الخط الحكومي في انتظار عودة الحكومة الى الانعقاد، فما الذي يقلق رئيس المجلس ويدفعه نحو التحذير من الأسوأ؟
مصادر سياسية مواكبة لحركة الاتصالات الجارية لفك عقدة البيطار وإعادة إحياء مجلس الوزراء، توافق بري على نظرته المتشائمة حيال أفق المرحلة المقبلة، كاشفة أن هذا التشاؤم يعكس واقعية رئيس المجلس في قراءة المشهد السياسي، انطلاقاً من نتائج الاتصالات الجارية التي تشي بأن لا مخارج متوافقاً عليها او مقبولة للسير بها في ظل الشروط والشروط المضادة في المقايضات المطروحة بين مسألة البيطار والطعن في بعض بنود قانون الانتخاب لدى المجلس الدستوري. ذلك ان سقوف المطالب لا تزال عالية جداً، وغير قابلة للتحقق، في ظل الشكوك المحيطة بالعلاقة بين “حزب الله” المتمسّك بقبع البيطار، و”التيّار الوطني الحرّ” الرافض حتى الآن التنازل عن البيطار قبل التأكد من قبول المجلس الدستوري الطعن الذي قدّمه له بالنسبة الى موعد الانتخابات، والأهم اعتماد النواب الستة للاغتراب. وهذا ما دفع بري الى الاشارة الى أن الأسبوع الطالع يجب أن يكون حاسماً، خصوصاً أنه لم يعد أمام المجلس الدستوري إلا الحسم في قبول الطعن أو رفضه، ما سيرسم معالم المرحلة المقبلة ومصير المقايضات الجاري التفاوض عليها راهناً بحيث يتبيّن مصير الجلسات الوزارية، تماماً كما مصير تحقيقات المرفأ، علماً بأنه لا يمكن إسقاط مقايضة أخرى برزت أخيراً في ظل المواجهة المحتدمة بين رئيس الجمهورية وفريقه السياسي وبين رئيس المجلس. فبعد معادلة “مدّدلي حتى مدّدلك” التي جاهر بها رئيس الجمهورية عندما قال إنه يبقى في قصر بعبدا إذا طلب منه المجلس النيابي ذلك، وكان صمت بري أبلغ من أن يُفسّر بالقبول، من خلال الحملة المستعرة بين الجانبين، برزت معادلة تعطيل المجلس مقابل تعطيل العهد في عامه الأخير من خلال تعطيل الحكومة التي يرغب فريق العهد بشدة في استئناف جلساتها لبتّ بُعدين مهمّين جداً بالنسبة إليه، وهما التعيينات، وغالبيتها لمواقع مسيحية، و”قبع” حاكم المصرف المركزي، حتى لو لم يتمّ التفاهم على البديل، كما قال الرئيس أمام نقابة المحرّرين قبل أيام.
والواقع أن المجلس النيابي مقبل على تعطيل نشاطه التشريعي بنهاية السنة الجارية، أي بعد أقل من أسبوعين، ما يعني أن المجلس سينضم الى الحكومة في التعطيل والشلل ما لم يبادر رئيس الجمهورية الى طلب فتح دورة استثنائية، باعتبار أن هذا الأمر مناط بصلاحيات الرئيس!
فبموجب المادة ٣٢ من الدستور، يجتمع المجلس النيابي في كل سنة في عقدين عاديين يبدأ الاول يوم الثلثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار، ويبدأ العقد الثاني يوم الثلثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول، ويدوم حتى نهاية السنة، وتخصّص جلساته لبحث الموازنة والتصويت عليها قبل كلّ عمل آخر. والواقع أن المجلس دخل بدوره في التعطيل في الأيام القليلة الفاصلة عن نهاية السنة، وفي ظل تأكد عدم وجود توجّه لدى رئيس الجمهورية الى الدعوة الى فتح جلسة استثنائية، عادة ما تتم بتفاهم بينه وبين رئيس الحكومة.
وهذا يعني عملياً أن الورشة التشريعية المطلوبة لمواكبة المفاوضات مع صندوق النقد ستتوقف بدورها أيضاً، ولا سيما أن رئيس الجمهورية يشكو من أنه مبعد عن أجواء تلك المفاوضات. فلا مشروع الكابيتال كونترول سيرى النور قريباً، ولا مشروع الموازنة التي أنجزها وزير المال مقدّر لها أن تقرّ بما أنها لم تصل بعد الى طاولة مجلس الوزراء المعطّل.
ولا تقف خشية بري عند هذا القدر من التعطيل. ذلك أن انتهاء العقد العادي سينهي حكماً الحصانة النيابية، ولا سيما تلك التي يتمتع بها معاونه السياسي النائب علي حسن خليل المطلوب للتحقيق. ما يطرح اسئلة حول كيف سيكون التعاطي القضائي والسياسي على السواء مع هذا الموضوع.
في جعبة بري المزيد من المخاوف والقلق، المستندة الى ما يسمعه الرجل أو يتلقاه يومياً من التقارير المواكبة للتطورات الأمنية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، فضلاً عن الرسائل التي يسمعها من المسؤولين الدوليين الذين يزورون لبنان أو المواقف الدولية المتصلة بالشأن اللبناني، وتعكس في مجملها أجواءً قاتمة حيال مستقبل البلاد، ومسؤولية السلطات اللبنانية في عدم الإمساك بزمام إرساء الحلول.
قبل أيام قليلة، وخلال زيارة مبعوث الأمم المتحدة الخاص الى سوريا غير بيدرسون، قبيل زيارة الامين العام غوتيريس، كشف عن حجم الفقر في سوريا الذي بلغ ٩٠ في المئة، مقارنة مع نسبة ٧٦ في المئة كانت الأمم المتحدة قدّرتها للفقر في لبنان قبل أن يبلغ انهيار العملة الوطنية ذروته بوصول الدولار الى ٢٨ ألف ليرة، ما يشي بأن نسب الفقر في لبنان باتت مشابهة لتلك التي في سوريا، مع كل ما يثيره هذا الرقم من مخاوف على الأمن الاجتماعي في ظل الاستمرار اللامتناهي للانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي.
وقلق بري يصبح مبرراً أكثر عندما يتبيّن أن المعالجات التي يتحدث عنها غير واردة وغير مطروحة ولم تجد لها بعد سبيلاً للخروج من “منتصف الليل” الذي يرى رئيس المجلس أن البلاد لا تزال غارقة فيه!
Views: 0