الأسلحة البيولوجية والكيميائية والإشعاعية والنووية متجذرة بعمق في تاريخ الصراعات العالمي القديم. إذ قد تعود تلك القدرات إلى فترات الحرب التكتيكية والاقتتال واسع النطاق بين المتحاربين منذ حضارة بابل القديمة.
السلاح البيولوجي والكيميائي ممتد عبر التاريخ القديم
يمكن إرجاع الأسلحة الكيميائية إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد عندما استخدم مجتمع سان في جنوب إفريقيا السموم الطبيعية من الثعابين على أطراف رماحهم لاصطياد الظباء.
كذلك تم العثور على أول استخدام مشتبه بها للعوامل الكيميائية في الحرب بين الفرس والرومان عام 256 وفقاً للأدلة الأثرية بحسب دراسة منشورة في موقع Science Direct للأبحاث، حينما عرّض الجيش الفارسي الجنود الرومان لغاز ضار يُعتقد أنه الكبريت، فقتلوهم قبل أن يضطروا إلى مواجهتهم في المعركة.
قد يكون هذا الشكل البدائي من الأسلحة هو أول مادة كيميائية أو بيولوجية تستخدم كسلاح هجومي أثناء النزاعات.
كان هذا قبل قرون من بروتوكول جنيف الذي أُسس في 1925، وحُظرت بموجبه المواد الكيميائية والبيولوجية كأسلحة في الحروب. وقد تطورت الأسلحة البيولوجية، كغيرها من القطاعات الأخرى، مع التقدم التكنولوجي.
تجريم لأسلحة الدمار الشامل في التاريخ الحديث
خلال الحرب العالمية الأولى، استمر استخدام المزيد من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية المتقدمة نسبياً في هذا الوقت، مما أدى إلى وقوع ما يقرب من 1.3 مليون ضحية مرتبطة بهذه الوسائل.
لذلك كانت هناك محاولات تاريخية لمنع وتجريم أسلحة الدمار الشامل من أسلحة بيولوجية أو كيميائية أو نووية بسبب الآثار المترتبة عليها التي تتجاوز تأثيرها اللحظي.
وتم ذلك في عام 1899 بإعلان لاهاي بشأن الغازات الخانقة ومرة أخرى في عام 1907 في اتفاقية لاهاي بشأن الحرب البرية، والتي حظرت بالفعل استخدام السموم أو العوامل السامة والأمراض أثناء الحرب.
وقد حظرت اللائحة الدولية التاريخية لعام 1925 في جنيف، استخدام الأسلحة الكيميائية واعتبرتها “جريمة ضد الإنسانية”، مما أدى تقريباً إلى وقف تطوير الأسلحة الكيماوية والبيولوجية بشكل رسمي منذ ذلك الوقت.
الحظر لم يوقف تطلعات أميركا لتطوير سلاحها البيولوجي واختباره!
بالرغم من تلك المواثيق الدولية التي تحظر استخدام وتطوير الأسلحة البيولوجية، عرفت أميركا أكثر من واقعة قامت فيها باستخدام واختبار ما توصلت إليه من تكنولوجيا في هذا الصدد.
إذ بدأ برنامج الأسلحة البيولوجية الأميركي منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية.
لكن أول اختبار علني حقيقي لم يحدث حتى عام 1949، عندما وضع العلماء بكتيريا غير ضارة في نظام تكييف الهواء في البنتاغون لمعرفة الشكل الذي قد يبدو عليه السلاح البيولوجي، ولتحديد مدى انتشاره وسرعة السيطرة عليه.
بعد عام، نفذت البحرية الأميركية عملية Sea-Spray. وفيها تم رش ساحل سان فرانسيسكو في كاليفورنيا بنوعين من البكتيريا، هما Bacillus globigii وSerratia marcesens.
وبحسب تصريحاته لاحقاً، كان الجيش يختبر من العملية كيف سيؤثر هجوم بالسلاح البيولوجي على 800 ألف من سكان المدينة.
وقد كان من المفترض أن تكون هذه البكتيريا آمنة، ولكن يتم إدراج النوع الأول اليوم كعامل مسبب للمرض، ويؤدي إلى التسمم الغذائي، ويمكن أن يؤذي أي شخص يعاني من ضعف في جهاز المناعة ويتسبب في وفاته.
أما بالنسبة لنوع البكتيريا الثاني، فقد تم نقل 11 شخصاً إلى المستشفى مصابين بعدوى بكتيرية خطيرة بعد اختبار سان فرانسيسكو في البحر المفتوح. توفي أحدهم ويُدعى إدوارد نيفين، بعد ثلاثة أسابيع.
عشرات العمليات التجريبية بالبكتيريا على المدنيين
وبين عام 1949 إلى عام 1969، أجرت أميركا عشرات العمليات في ذات الإطار وكان الهدف “هو ردع استخدام الأسلحة البيولوجية ضد الولايات المتحدة وحلفاؤها والقدرة على الرد إذا فشلت محاولات الردع”.
وكان من الأمور الأساسية لتطوير استراتيجية الردع البيولوجية الأميركية هي الدراسة والاختبار والتطوير. ومن بين 239 اختباراً معروفاً في هذا البرنامج، كانت سان فرانسيسكو جديرة بالملاحظة لسببين، وفقاً للدكتور ليونارد كول، الذي وثق اختبارات أميركا البيولوجية في كتابه بعنوان “غيوم السرية: اختبارات الحرب الجرثومية للجيش فوق المناطق المأهولة بالسكان”.
ولم يعرف الأميركيون، بحسب ما جاء في الكتاب، تداعيات تلك الاختبارات إلا في السبعينيات من القرن الماضي، عندما “علموا أنهم كانوا بمثابة حيوانات تجريبية لوكالات حكومتهم لعقود في مجال تطوير واختبار الأسلحة البيولوجية”.
اختبارات على المدنيين وضحايا لم يتم كشف أعدادهم أبداً
وفي عام 1951، تم إجراء الاختبارات على أسلحة بيولوجية أخرى في مركز نورفولك للتزويد البحري في فيرجينيا – وهي قاعدة ضخمة تزود البحرية الأميركية بالمعدات والصيانة والوقود.
وهناك، تم نشر الجراثيم الفطرية لمعرفة كيف يمكن أن تصيب العمال الذين يفرغون الصناديق هناك. وقد كان معظم العمال أميركيين من أصل إفريقي، ولم يتم إخطارهم بطبيعة الحال أنهم قيد تجربة علمية لسلاح بيولوجي، بحسب موقع The conversation.
إذ أراد العلماء اختبار نظرية مفادها أنهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الفطرية من القوقازيين.
وفي عام 1997، كشف المجلس القومي للبحوث أن الولايات المتحدة استخدمت أيضاً مواد كيميائية لاختبار إمكانات الأسلحة البيولوجية في الخمسينيات. وذلك في نوع ثنائي من المزيج بين الخطرين.
حينها تم تفريق كبريتيد الكادميوم الزنك بالطائرة ورشها على عدد من المدن الأميركية دون تحذير للمدنيين القاطنين في تلك المدن، بما في ذلك سانت لويس في ميسوري ومينيابوليس في مينيسوتا.
تم اختيار هذه المدن لأنها كانت مشابهة للأهداف السوفييتية مثل موسكو من حيث التضاريس والطقس وعدد السكان.
وبالرغم من أن المجلس زعم أنه لم يصب أحد جراء تلك العملية، وأن مستوى المادة الكيميائية المستخدمة لم يكن ضاراً، لكن في عام 2012، كشفت أستاذة أميركية في علم الاجتماع تُدعى ليزا مارتينو تيلور، أن هناك ارتفاعاً في معدلات الإصابة بالسرطان في تلك المدن يمكن ربطها بالمواد الكيميائية البيولوجية التي استُخدمت في الاختبار، وهو ما قالت إنه كان مزيجاً مشعاً. ومع ذلك، لم يتم تأكيد أي من تلك الادعاءات بشكل رسمي.
استخدام الحشرات ضمن تطوير أميركا لأسلحتها البيولوجية
بالإضافة إلى الاختبارات في الهواء الطلق أو عبر الماء المفتوح كما أسلفنا، لدى الجيش الأميركي أيضاً سجل في تسليح الحشرات المصابة لاستخدامها ضد العدو حينما تستلزم الحاجة.
ففي عام 1954، على سبيل المثال، نفذ العلماء عملية تُسمى Big Itch.
وقد تم تصميم الاختبار لمعرفة ما إذا كان يمكن استخدام البراغيث في القنابل واستخدامها لإيقاع الإصابات في الجهة المعادية. وقد أجريت الاختبارات بعد سنوات قليلة من اتهام السوفييت للولايات المتحدة بإلقاء عبوات مليئة بالحشرات المصابة بالصرع والطاعون في كوريا والصين خلال الحرب الكورية.
ومع ذلك، ينفي الجيش الأميركي وجود عملية بهذا الاسم، ويتهمها إلى اليوم باعتبارها “حملة تضليل” وتشويه إعلامية.
مشروع 112 لنشر البكتيريا في محطات الأنفاق
كانت هناك زيادة هائلة في الاختبارات الأميركية بهذا الصدد في عام 1962، عندما أجاز وزير الدفاع الأميركي آنذاك، روبرت ماكنمارا، مشروعاً سُمي “112”. وبموجبه شمل المشروع اختبار الأسلحة البيولوجية وضخ أموالاً جديدة في البحث والتطوير.
وقد تم إجراء أحد أكثر الاختبارات إثارة للجدل ضمن هذا المشروع عام 1966 في مترو أنفاق مدينة نيويورك. عندما قام العلماء بملء المصابيح الكهربائية ببكتيريا Bacillus globigii ثم قاموا بتحطيمها على المسارات.
وقد سافرت البكتيريا لأميال حول نظام مترو الأنفاق في المدينة، وأدت إلى استنشاقها من قِبَل آلاف المدنيين وغطت ملابسهم، ما ساهم في توسيع رقعة نشرها عبر المدينة.
لم يكن حتى عام 2008، عندما أقر مكتب محاسبة الحكومة الأميركية بأن عشرات الآلاف من المدنيين ربما تعرضوا لعوامل بيولوجية بفضل مشروع 112 واختبارات أخرى سرية لم يتم الكشف العلني عنها، بحسب صحيفة New York Times، وأشار التقرير نفسه إلى أنه منذ عام 2003، تحاول وزارة الدفاع الأميركية تحديد المدنيين الذين تعرضوا خلال المشروع 112 لإعلامهم بما تم بحقهم دون إخطار.
في حين ينفي الجيش أن هذا الاختبار يتعلق بأي مرض ضار أصاب المدنيين، لكن العديد ممن تم التعرف عليهم يزعمون أنهم يعانون الآن من حالات طبية طويلة الأمد وأمراض مزمنة أكثر من غيرهم.
اختبارات لمواد خطيرة من منيوبوليس وحتى سانت لويس
اختبر الجيش أياً كيفية انتشار سلاح بيولوجي أو كيميائي في جميع أنحاء البلاد عن طريق رش البكتيريا، بالإضافة إلى مساحيق كيميائية مختلفة – بما في ذلك سلاح مثير للجدل يُسمى زنك كبريتيد الكادميوم.
وفي الاختبار الذي نشره موقع Business Insider، كانت الطائرات التي تحلق على ارتفاع منخفض، أحياناً بالقرب من الحدود الكندية، تطير عبر الغرب الأوسط لأميركا، وتلقي بحمولاتها فوق المدن.
تم اختبار هذه المواد الكيميائية البيولوجية على الأرض أيضاً، باستخدام آلات من شأنها إطلاق السحب من فوق أسطح المنازل أو التقاطعات في المدينة لمعرفة كيفية انتشارها ومدى تفشيها.
في الكتاب، يستشهد كول بتقارير عسكرية وثقت العديد من اختبارات مينيابوليس، بما في ذلك اختبار حيث انتشرت المواد الكيميائية في المدرسة. وكانت الغيوم واضحة للعيان.
ولمنع الشبهات، تظاهر الجيش بأنهم يختبرون طريقة لإخفاء المدينة بأكملها من أجل حمايتها. وأبلغوا مسؤولي المدينة أن “الاختبارات تضمنت جهوداً لقياس القدرة على وضع حواجز دخانية حول المدينة” من أجل “إخفائها” في حالة وقوع هجوم نووي، بحسب رواية كول.
السمية المحتملة لمركب كبريتيد الكادميوم زنك موضع جدل. أحد المكونات، وهو الكادميوم، وهو مركب شديد السمية يمكن أن يسبب السرطان.
لكن تقريراً صدر عام 1997 عن المجلس القومي للبحوث خلص إلى أن الاختبارات السرية للجيش “لم تعرض سكان الولايات المتحدة وكندا لمستويات كيميائية تعتبر ضارة”.
ومع ذلك، أشار التقرير نفسه إلى أن البحث حول تأثير ومخاطر المادة الكيميائية المستخدمة كان ضئيلاً، واعتمد في الغالب على دراسات حيوانية محدودة للغاية.
ويختتم الكاتب كتابه مشيراً إلى أن العديد من التفاصيل حول اختبارات الجيش على مناطق مأهولة بالمدنيين بدون إخطارهم لا تزال سرية.
كما لا تزال معظم تقارير الاختبارات سرية أو لا يمكن تحديد موقعها إلى اليوم، على الرغم من توفر عدد قليل من التقارير السابقة استجابة لطلبات قانون حرية المعلومات. ومع ذلك، حتى وإن تم الإفصاح عن بعضها، دائماً ما تكون هناك بعض المعلومات المشطوبة أو المفقودة من بين تل المواثيق.
وبالرغم من أن الكثير من الروايات السابقة إما تم نفيها أو دحض ما تم تداوله عن مخاطرها وتأثيرها على المدنيين بشكل طويل الأمد، لكن غرابة ما فيها من تفاصيل قد يشير إلى أنه ببساطة.. ما خفي كان أعظم.
Views: 1