لِماذا رفَض أردوغان استِقبال بولتون بشَكْلٍ مُهينٍ وهاجَمَهُ بشَراسةٍ غير مَسبوقةٍ؟ هَل أفسَد نِتنياهو طبْخَةَ الانسِحاب الأمريكيّ مِن شِمال شَر
ق سورية؟ وما هِي خِيارات الرئيس التركيّ الحاليّة؟ وكيفَ سيَكون الرَّد الروسيّ السوريّ على هَذهِ التَّطوُّرات التي تَصُبْ في مَصلحَتِهِما؟
رفَض الرئيس رجب طيّب أردوغان استِقبال مُستشار الأمن القَوميّ الأمريكيّ جون بولتون اليَوم في القَصر الرئاسيّ في أنقرة، ومُغادَرة الأخير مُطَأطِئ الرَّأس مِن شدّة الإهانَة، أثار العَديد مِن عَلامات الاستِفهام حول حجم الأزَمَة الأمريكيّة التركيّة المُفاجِئَة، ومَدى جدِّيّتها أوّلًا، والخُطوة المُقبِلة التي يُقْدِم عليها الرئيس التركيّ في شِمال شَرق الفُرات، ومَا إذا كانَ سيُنَفِّذ تَهديداتِه بالهُجوم على قُوّات سورية الديمقراطيّة المُتَمَركِزَة في المِنطَقةِ ثانِيًا.
الأسْباب الحَقيقيّة لهَذهِ الأزَمَة التي جاءَت بَعد تَوصُّل الكَثير مِن المُراقبين إلى قناعةٍ راسخةٍ بأنّ المُكالَمة الهاتفيّة التي جَرت بين الرئيس التركيّ ونظيره الأمريكيّ دونالد ترامب قبْل عَشْرَة أيّام، وقرَّر بعدَها الأخير سَحب جَميع قُوّاته مِن شمال سورية في غُضونِ شَهرين أو ثلاثة أشهُر على الأكثَر، ما زالَت غَير معروفة، ومَحْصورةً في نِطاق التَّكَهُّنات.
الأمريكيّون سرّبوا أنباءً تقول أنّ بولتون أبلغَ إبراهيم كولن، المتحدث باسم الرئيس التركيّ، أثناء اجتماعه بِه، بأنّ واشنطن تُعارِض أيّ هُجوم تركيّ على حُلفائِها الأكراد في سورية، وإنّها لنْ تَسحَب قوّاتها مِن شِمال شَرق سورية إلا في حال ضَمِنَت تركيا أمْن وسَلامَة هؤلاء الحُلَفاء، وامتَنَعَت عَن القِيامِ بأيِّ هُجومٍ ضِدَّهُم.
الرئيس أردوغان شَنَّ هُجومًا شَرِسًا على بولتون بسَبب هذه التَّصريحات، ونَفَى نَفْيًا قاطِعًا أنْ يكون قدَّم للرئيس ترامب تَعَهُّدًا بعَدم شن هُجوم على قُوّات سورية الديمقراطيّة، لأنّه يَعتَبِرها “إرهابيّةً”، وتركيا حَسب رأيه، لا يُمكِن أن تُقَدِّم أيّ تَنازُلات لأحَد في مَجال الإرهاب.
مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكيّ، الذي بَدَأ جولةً شَرق أوسطيّةً تشمل ثَماني دول خليجيّة إلى جانِب مِصر والأُردن، أكَّد أنّ الرئيس أردوغان قَدَّم هذه الضَّمانات بحِمايَة الأكراد للرئيس الأمريكيّ، وهو تَعَهُّدٌ غَريبٌ فِعْلًا، ومِن الصَّعب أنْ يَصدُر عَن رَئيسٍ تُركيٍّ يَعتَبِر وحَدات حماية الشعب الكرديّة التي تُشَكِّل العَمود الفِقريّ لقُوّات سورية الديمقراطيّة الذِّراع التركيّ السوريّ لحِزب العُمّال الكردستانيّ إرهابيّة، اللهم إلا إذا كان المُقابِل كَبيرًا جِدًّا، مِثل تقسيم سورية، أو تغيير النِّظام في دِمشق، أو تسليم الداعية التركيّ فتح الله غولن المُتَّهم بالوُقوف خَلف الانقِلاب الأخير، ولا يُوجَد أيّ مُؤَشِّر يُوحِي بذَلِك.
الأمْر المُؤكَّد أنّ هُناك طَرفًا أفسَد الطَّبخة التي طَبَخَها الرَّئيسان ترامب وأردوغان بشَأن شِمال شَرق سورية، ولا نَستبعِد أن يكون بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ، هو هذا الطَّرف، فالشُّروط التي طرَحَها بولتون وتتمَحور حول حِمايَة تركيّا للقُوّات الكرديّة كشَرطٍ لانسِحاب القُوّات الأمريكيّة، جاءَت في مؤتمر صحافي مع صَديقه نِتنياهو في القُدس المُحتلَّة، وقبْل تَوجّهه إلى أنقرة، وما يُؤكِّد هذه النَّظريّة مُعارَضة الأخير، أيّ نِتنياهو، للانسِحاب الأمريكيّ مِن سورية بشَراسَةٍ وتَجنيدِه كُل اللوبيّات اليَهوديّة في أمريكا لمَنعِ هذا الانْسِحاب.
السُّؤال هو: ماذَا سيفعَل الرئيس أردوغان الآن، هَل سيُنَفِّذ تَهديداته ويَقْصِف قوّات سورية الديمقراطيّة في شَرق الفرات؟ ومَن الذي سيَمنَعه؟ أمريكا أمْ روسيا؟
المَجال الجَويّ السوريّ شمال شرق سورية ما زالَ في يَد الولايات المتحدة التي تُسيطِر عليه، ولم تُعلِن أمريكا وحتّى الآن على الأقَل عزمها التخلّي عنه، بعد سَحب قُوّاتها الأرضيّة، وحتّى في حالِ إنهاءِ سَيطَرتها هذه، فإنّ الروس سيَملاؤن هذا الفَراغ، ومِن غَير المُعتَقد أنّهم سيَسمَحون بشَنِّ هذه الغارات التركيّة على القُوّات الكرديّة دون اتِّفاق معهم، لا يتَعارض مع مَطالِب حُلفائِهم السُّوريّين في دِمشق.
لا نَتَّفِق مع بعضِ الآراء التي تقول أنّ هذا الخِلاف التركيّ الأمريكيّ غير جديّ، ومُجَرَّد “مسرحيّة” لأنّ تَغييرًا رُبّما حصَل في المَوقِف الأمريكيّ وبضُغوطٍ إسرائيليّةٍ، ممّا أدَّى إلى دَفْع الرئيس ترامب للتَّراجُع عَن قراره بالتَّخَلِّي عَن حُلفائِه الأكراد شِمال شورية، وسَحب قُوّاته التي كانَت تُوفِّر لهُم الحِماية، وتَقديمِهم قُربانًا للرئيس أردوغان، رُضوخًا لضُغوط نِتنياهو وكِبار المَسؤولين في حُكومته والمُؤسَّسة العَسكريّة الأمريكيّة.
مَطالِب الرئيس أردوغان بإطلاقِ يَدِه وقُوّاته في شِمال شرق سورية، وسَحْق القُوّات الكُرديّة، وقبل ذلِك سحب أمريكا جَميع العَتاد، والثَّقيل والمُتَطوَّر مِنها، الذي جَرى تسليمه لها تحت عُنوان مُحارَبة “الدولة الإسلاميّة” (داعش) وتَصفِيتَها، هذه المَطالب باتَت مَرفوضةً أمِريكيًّا، ولم يَعُد أمام الرئيس التركيّ مِن خِيارات، غير خِيار واحِد، وهو وضع كُل بيْضِه في سَلَّة روسيا والتَّنْسيق بالكامِل مع رَئيسِها فلاديمير بوتين.
أردوغان أدْلَى بالأمْس تَصريحًا لافِتًا للنَّظَر، قال فيه أنّه يَجِب تشكيل قُوّات مِن مُختَلف مُكوِّنات الطَّيف السوريّ لمُواجَهة “الإرهاب” الكرديّ، والقَضاء عَليه.. فهَل هذا التَّصريح يَشْمَلُ قُوّات الجيش العربيّ السوريّ أيْضًا؟
الرئيس أردوغان سِياسيّ يُغَيِّر مَواقِفه حسب ما يَعتقِد أنّه يَخدِم مصالِح بلاده، وحِزبه، وطُموحاته الشَّخصيّة كزَعيمٍ للمِنطَقة، ومَن غير المُستَبعد أن يُقْدِم على بعض “المُفاجَآت” في الأيّام والأسابيع القَليلةِ المُقبِلة للخُروج مَن هذه الأزَمَة، واجتِماعِه المُقبِل مَع الرئيس بوتين خِلال أيّام، رُبّما يَشِي نَتائِجه بالكَثير في هَذا الصَّدَد.
السُّلطات السوريّة في دِمشق تُراقِب المَوقِف عَن كَثَبٍ، فالتَّطَوُّرات على السَّاحةِ السوريّة، وتَفاقُم الخِلافات بين خُصومِها، سواء حرب التَّصفِيات بينَ “النصرة” وخُصومِها في إدلِب وريفِها، أو بين الأتراك والأمريكان، أو الأتراك والأكراد، كُلها تَصُبْ في مَصلَحَتِها.. واللهُ أعْلَم.
Views: 4