بايدن يتعهّد بالدّفاع عسكريًّا عن تايوان في حال إقدام الصين على اجتياحها وضمّها.. لماذا نُشَكّك وننصح “التايوانيين” بالعكس؟ وما هي الهديّة الضّخمة التي قدّمها له رئيس كوريا الشماليّة بمُناسبة جولته في شرق آسيا؟ ولماذا نتوقّع فشل جولته الشّرق أوسطيّة القادمة؟
عبد الباري عطوان
في المُؤتمر الصّحافي الذي عقده الرئيس جو بايدن مع فومو كوشيدا رئيس الوزراء الياباني في ختام جولته الشرق أوسطيّة، أكّد أن أمريكا ستتدخّل فورًا، وتُدافع عن تايوان في حال تعرّضها لغزوٍ صينيّ، وقال “إن الصين تلعب بالنّار عبر تكثيف تهديداتها ومُناوراتها العسكريّة في المِنطقة”.
لو كنت في مكان قيادة جزيرة تايوان لما أخذت تصريحات الرئيس الأمريكي هذه على مأخذ الجد مُرتَكِزًا على نظيراتها المُماثلة التي سبقت انفجار الحرب الأوكرانيّة، فالرئيس بايدن الذي مهّد للحرب الأخيرة بإيهامِ الشعب الأوكراني بأنّه يقف في خندقه، وشجّع رئيسه زيلينسكي على استِفزاز الرئيس فلاديمير بوتين ودفعه بالتالي لاجتِياح بلاده، لم يُرسل جُنديًّا أمريكيًّا واحدًا لأوكرانيا، ولم تُطلق أساطيله وترسانات حلف الناتو وجُيوشه الذي يتزعّمه، صاروخًا واحدًا على القوّات الروسيّة، وترك الشعب الأوكراني يبحث عن طُرقٍ آمنة للهُروب من بلاده بحثًا عن الأمان.
القيادة الصينيّة سخرت عبر المتحدّث باسمها من تصريحات الرئيس بايدن، وتهديداته هذه، وقالت إنه هو الذي يلعب بالنّار التي ستحرق أصابعه حتمًا، فالمُناورات العسكريّة التي تُجريها فوق بحر اليابان، وتُشارك فيها طائرات روسيّة تندرج في إطار الحقّ السيادي الصيني، وهذا صحيح، فماذا تفعل أمريكا وحاملات طائراتها في منطقةٍ تَبعُد عن يابستها أكثر من خمسة آلاف ميل، إن لم يكن أكثر، غير زعزعة استقرار المنطقة وتفجير الحُروب فيها لإشباع إدمانها الاستعماري الطّابع.
يقول المنطق السياسي والعسكري، إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفتح جبهة حرب جديدة مع الصين في حال اجتياح قوّاتها تايوان، في الوقت الذي تخوض فيه حربًا بالإنابة في أوكرانيا تدخل شهرها الرابع دون تحقيق أيّ انتصار فيها، بل وتُواجه وحُلفاؤها هزائم على الأرض في ظل تقدّم القوّات الروسيّة وإحكام سيطرتها على مُعظم مُدن وموانئ جنوب شرق البِلاد (إقليم دونباس)، وتأمين الطّريق البرّي الاستراتيجي بينها وبين شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014.
إذا كانت العُقوبات الاقتصاديّة الشّرسة التي لوّح بفرضها الرئيس بايدن ضدّ روسيا على أمل منعها من اجتياح أوكرانيا، ثمّ طبّقها بعد الاجتياح، لم تُحَقِّق إلا نجاحًا ثانويًّا، وأعطت نتائج عكسيّة تمامًا، بسبب استعداد الروس لها مُسبَقًا، وتفاقم الخلافات الأوروبيّة تُجاهها، فالنفط والغاز الروسيّان ما زالا يتدفّقان إلى أسواقهما الأوروبيّة، ومن يرفض الدّفع بالروبل مِثل بولندا وفنلندا وبلغاريا والسويد، عليه البحث عن بدائلٍ شبه معدومة، أو العودة إلى الفحم الحجري، والرئيس بوتين بات عاجزًا عن حصر العوائد الهائلة التي تتدفّق على ميزانيّة بلاده من جرّاء وصول سعر برميل النفط إلى 114 دولارًا، ويَفرُك يديه فرحًا مع ارتفاع نسب التضخّم في البلاد الأكثر عداءً وتَورُّطًا في حصار حُكومته وشعبه.
ومن المُفارقة أن منظومة “كواد” الدفاعيّة الشّرق آسيويّة التي تضم أربع دول (أستراليا، اليابان، كوريا الجنوبيّة، الهند) التي أرادت أمريكا أن تكون حلف ناتو آسيوي “مُصَغّر” بدأت تتفكّك، وظهر هذا التفكّك في أوضح صُوره برفض الهند إدانة الاجتياح الروسي لأوكرانيا، والالتزام بحُزمة العُقوبات الاقتصاديّة ضدّ موسكو، والأهم من ذلك توثيق عُلاقاتها التجاريّة مع الأخيرة.
وإذا كانت جولة بايدن الآسيويّة لم تُحَقِّق إلا القليل من النجاح، وربّما تقود إلى كوارث ضدّ البلدان التي شملتها، فإنّنا لا نستبعد أن تُواجه الجولة المُقبلة له في الشّرق الأوسط التي تعكف إدارته على ترتيباتِ عقدها في حزيران (يونيو) المُقبل فَشَلًا أكبر في ظِل تدنّي ثقة حُكومات المنطقة وشُعوبها معًا بالولايات المتحدة وقوّتها، ونصرها لحُلفائها وحمايتهم، ولا تُوجد أيّ مؤشّرات حتى الآن تقول عكس ذلك، وتُوحي باحتمالات تغيير الدول الرئيسيّة فيها وخاصَّةً مِصر والسعوديّة والإمارات لمواقفها تُجاه الحرب الأوكرانيّة، والوقوف في الخندق الأمريكي ضدّ روسيا، وتلبية المطالب الأمريكيّة في تعويض الدول الأوروبيّة من اجتِياحاتها من النفط والغاز البديل، ورفع الإنتاج بنسبٍ عالية (السعوديّة والإمارات) وفكّ الارتباط مع اتّفاق “أوبك بلس” مع روسيا لتخفيض الأسعار.
التحالف الروسي الصيني يزداد قوّةً، ويتعزّز بانضمام دول وازنة إليه مِثل الهند وإيران وكوريا الشماليّة والبرازيل وفنزويلا، بهُدوءٍ ودُون جعجعة، وهو تحالف مدعومٌ باقتصادٍ قويّ وأمنٍ غذائيّ صُلب (الصين وروسيا والهند أكبر ثلاث دول مُنتجة للغذاء مِثل القمح والأرز)، وترسانة عسكريّة نوويّة وصواريخ باليستيّة عابرة للقارّات، وحاملات طائرات، وغوّاصات، عُنوانها الأبرز صاروخ “سارمات” العملاق الذي دخل الخدمة في الجيش الروسي، وسيبقى فيها لخمسين عامًا قادمة، ومن أهم ميّزاته عدم قُدرة المنظومات الدفاعيّة على اعتراضه لسُرعته (أسرع من الصّوت بتسع مرّات) ويبلغ وزنه 208 أطنان، وطوله 35 مترًا، وقُطره 3 أمتار.
وما زاد الطّين الأمريكي بلّة، تقديم الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون “هديّةً عُظمى” للرئيس بايدن تتناسب مع أهميّة جولته الشّرق آسيويّة عبارة عن التّجارب السّابقة لاختبار صاروخ نووي باليستي عابر للقارّات، وكأنّ لسان حاله يقول “هذا أهم ثمرة للعُقوبات الأمريكيّة على الشعب الكوري الشمالي”.
الولايات المتحدة الأمريكية تتخبّط، وقيادتها الحاليّة تُواصل السّير على نهج سابقاتها بارتكاب أخطاء استراتيجيّة كارثيّة سواءً بالحُروب أو فرض العُقوبات الاقتصاديّة التي تحوّلت إلى “أُضحوكةٍ” بسبب فشلها، ممّا أفقدها زعامتها وهيبتها وأغرقت حُلفاءها في أزماتٍ اقتصاديّة طاحنة تُهَدِّدها بالانهيار والإفلاس، وربّما المجاعة الكُبرى في نهاية المطاف إن لم يكن حربًا نوويّة أيضًا.
اختتم بالوصف الدّقيق للكاتب الأمريكي جاي بي شيرك الذي ورد في مقاله الذي نشره أمس في مجلّة “أمريكان ثنكير” ومُلخّصه “أمريكا في عهد بايدن تُشبه السّفينة الغارقة، وسياسته (أيّ بايدن) تُهَدِّد بالتّدمير الذّاتي، وتُجَسِّد رفض الاعتراف بالنظريّة التي تقول إن السّمكة تتعفّن من رأسها”.. واللُه أعلم.
Views: 2