«الدوشة» التي تواكب ورشة إعادة ترسيم الخريطة السياسية الجديدة للشرق الاوسط تعطي الانطباع بأنّ معضلة معالجة التحدّيات تبدو شاقة، رغم انّ سخونة النزاع الايراني ـ الخليجي وعمقه دفعا بالأوضاع لتصبح أكثر ملاءمة ونضجاً. لكن الجديد انّ التحدّيات العالمية لأحادية الدور الاميركي من قِبل روسيا والصين تركت آثارها الواضحة في الشرق الاوسط.
وخلال الأعوام الثلاثة الاخيرة، اعتقد البعض انّ وباء كورونا هو الذي سيؤدي إلى تغيير العالم إلى الأبد. لكن العالم بدأ يتحكّم بالوباء إلى مستويات معقولة ولو ان تطوره لا يزال غير واضح أو حتى مجهولاً. لكن العالم بدأ يتعايش ويعتاد مع جائحة كوفيد، على الرغم من انّه ترك آثاره الواضحة على نمط جديد للسلوك البشري.
التحوّل الذي بدأ يظهر على مستوى الخربطة العالمية له علاقة بالتحدّيات السياسية والسعي لرسم حقبة جديدة.
ففي العام 1991 انتهت حقبة «الحرب الباردة» التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وثمة بوادر واضحة تؤشر إلى احتمال بدء مرحلة جديدة على أنقاض مرحلة «الحرب الباردة» انطلاقاً من حرب اوكرانيا، لتصبح سنة 2022 تاريخ بدء حقبة جديدة.
في القراءات التاريخية، انّ الحرب الأهلية الإسبانية في العام 1936 هي التي شكّلت المدخل المنطقي للحرب العالمية الثانية، والبعض يضيف اليها حرب منشوريا، حين غزتها اليابان في العام 1931. وبالتالي، فإنّ الاعتقاد بأنّ الغزو الروسي لأوكرانيا سيبقى محصوراً في اوكرانيا او حتى في اوروبا فقط، فهو مخطئ تماماً. فالعالم كله يعيش أزمة النفط والغذاء وايضاً النفوذ السياسي.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحاً خلال اطلالته الاخيرة، في حديثه عن انتهاء حقبة أحادية القرار الاميركي. ففي اوكرانيا تراقب العواصم الغربية بكثير من التفصيل، ليس فقط الحركة الروسية بكل مقوماتها ودراسة سلوك بوتين، بل ايضاً وخصوصاً سلوك القيادة الصينية وطريقة تفاعلها.
وتكفي الإشارة إلى القرارات الاخيرة لدول حلف «الناتو» في اسبانيا، والتي تشكّل ما يشبه التأسيس لمرحلة جديدة تقوم على استعادة زمام المبادرة العسكرية. وهذه الصورة الملبّدة على المستوى الدولي كان لها تأثيرها على الساحة الشرق أوسطية.
صحيح انّ المتعارف عليه تاريخياً أنّ الشرق الاوسط هو ساحة نفوذ اميركية، الّا انّ ثمة تبدّلات حصلت خصوصاً على مستوى العلاقة الاميركية ـ الخليجية.
بالتأكيد لا يزال النفوذ الاميركي هو الطاغي في منطقة منابع النفط، لكن المياه لم تعد صافية كما في السابق. وهو ما يظهر من خلال الحرص السعودي على تنويع العلاقة الدولية مع خصوم الولايات المتحدة الاميركية، والمقصود هنا الصين وروسيا.
لا شك انّ من المبكر جداً الحديث عن نفوذ روسي او صيني في شبه الجزيرة العربية، ذلك انّ واشنطن لا تزال تمسك جيداً بالبنية التحتية العسكرية والأمنية والاقتصادية في هذه المنطقة الحساسة من العالم، والاسطول الاميركي هو الذي يؤمّن الممرات البحرية لتدفق النفط إلى الاسواق العالمية، لكن مجرد فتح الابواب أمام مجالات التعاون، والتي تصل في بعض الاحيان إلى مجال التسلح، فهذا يعني كثيراً ويؤشر إلى انّ العالم بدأ «يدفن» حقبة الأحادية الاميركية ويستعد لترتيب حقبة عالمية جديدة، لكن لهذه الحقبة أثمانها.
فروسيا المنهكة اقتصادياً ملزمة باستعادة نشاطها العسكري في سوريا، حيث قاعدة انطلاقها لتأمين حضورها ونفوذها في الشرق الاوسط.
ودشّنت روسيا عودتها بغارات على «داعش» عند المثلث الحدودي الحساس بين سوريا والاردن والعراق. وكانت روسيا قد فرملت حركتها العسكرية في سوريا إثر التطورات الحربية في اوكرانيا.
وروسيا لا تستطيع البقاء من دون فرض حضورها في سوريا، لكي لا تترك الساحة خالية امام ايران من جهة وتركيا من جهة اخرى.
وهذا ما ادّى إلى ارتفاع منسوب الشغب ما بين روسيا وتركيا وإيران، بهدف إغتنام فرصة انشغال واشنطن في التطورات الحربية في اوروبا والاستياء الخليجي وتعقيدات الملف النووي الايراني. وبدت واشنطن غير قادرة على القيام بحركة معاكسة، تاركة اللعبة تأخذ مداها الّا في حال المساس بالمصالح الحيوية الاميركية، وبذلك تركت النزاع حول إعادة رسم خطوط حمر جديدة في سوريا.
وهذا ما جعل ايران تعمل على استعادة مساحة النفوذ التي خسرتها لمصلحة روسيا، في وقت تبدي قلقها ايضاً من توسّع النفوذ التركي، وفي الوقت نفسه تحاذر التصادم مع أنقرة.
وعلى مسافة ليست ببعيدة، تستعيد التيارات الارهابية نشاطها في افغانستان، مرة من خلال «داعش» ولو من دون موافقة حركة «طالبان» الحاكمة، ومرة اخرى من خلال تنظيم «القاعدة» تحت عباءة «طالبان»، ولأجل كل ذلك تكتسب زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الى السعودية أهمية استثنائية وتقارب الحدث التاريخي. والواضح انّ التحدّيات كثيرة، وانّ اهداف الزيارة كبيرة وأساسية، خصوصاً لناحية تكريس المحور الجديد الذي سيواجه ايران والذي تحتل فيه اسرائيل مساحة واسعة.
على سبيل المثال، يكثر الحديث عن الاتفاق على الاعلان عن نقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافر من مصر الى السعودية، في مقابل ضمان السعودية لحرية الملاحة التجارية والعسكرية الاسرائيلية عبر مضيق تيران، إضافة الى فتح الاجواء السعودية أمام حركة الملاحة المدنية الاسرائيلية.
وعلى الرغم من الضبابية التي تحوط بنتائج زيارة بايدن إلى المنطقة، الّا انّ الاوساط الديبلوماسية المعنية تتحدث عن نتائج مهمّة لها.
وفي الوقت نفسه وبخلاف ما رشح عن فشل محادثات الدوحة بين الاميركيين والايرانيين حول الملف النووي، الّا انّ الاوساط المطّلعة نفسها لا توافق الذين يعتبرون انّ الاتفاق دُفن ولم يعد موجوداً، فهي تعتقد انّ ما يحصل هو احد اشكال التفاوض، وانّ الباب لم يُغلق بعد.
كل هذه التطورات ستؤثر نتائجها على لبنان بكل تأكيد. صحيح انّ لبنان ليس مدرجاً في اولويات أي طرف من الأطراف، لكنه في الوقت نفسه ليس ملفاً موضوعاً على الرف.
لذلك مثلاً، راقبت العواصم الغربية بكثير من التمحيص، المضمون الفعلي لرسالة «حزب الله» من خلال مسيّراته الثلاث في اتجاه حقل كاريش.
هل هي رسالة ايرانية لها علاقة بتعثر المفاوضات النووية؟ ام انّها رسالة لبنانية لها علاقة بوضع «حزب الله» تحديداً؟
ولكن في كلا الحالتين كانت الرسالة رمزية أكثر منها حربية. فالمسيّرات لم تكن تحمل متفجرات، وكان هدفها لفت الأنظار في توقيت مدروس. فالوضع الاسرائيلي الداخلي لا يسمح بأي تصعيد، أضف الى ذلك، استحالة حصول ذلك عشية زيارة بايدن، وفي الوقت نفسه حاجة اوروبا الماسة الى الاستقرار الأمني في شرق البحر المتوسط لضمان تعويض ولو نسبة قليلة من الغاز اليها، بدءاً من ايلول المقبل.
هي مرحلة الخيارات الحاسمة على مستوى المنطقة، ما يستوجب على لبنان الانصراف إلى تحصين اوضاعه الداخلية والتخفيف من هول الانهيارات، لا المقامرة بما تبقّى له من رصيد زهيد.
Views: 3